لكل قلبٍ راضٍ إسراءٌ ومعراج
قد يُعذَرُ الإنسانُ في تنفُّسه الصعداءَ إثرَ الهموم التي تتصاعدُ في صدره، وربما يُعذرُ في التأوُّه ورفع الصوت من ألمِ المصيبة التي حلّت به.
لكنه لا يُعْذَر بحال في أن يشكوَ الله تعالى للناس، ولا في أنْ تتزعزعَ ثقتُه بربِّه شَرْوى نقير.
وإن هو صبرَ على آلامه، واستقبل المصيبة النازلة به بالرضا الصاعد منه، فإنه_ ولا ريب_ سيظفرُ بجائزة سَنِيّة، ومَكرُمة هَنِيّة.
وإن هو تبرَّم وسخط، فعليه سُخْطُه، وهذه سنّة إلهية، تتجلى للناس على مدى الأزمان. فقد ورَد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((إنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإن الله إذا أحَبَّ قوماً ابتلاهم، فمَن رَضِيَ فله الرضا، ومَن سَخِط فله السُّخْط)) "أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن".
وفي معاينةِ السيرة الشريفة تتجلى هذه الحقيقة مِراراً، فقد ابتُلي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأحمالٍ من الابتلاءات ثِقال، غيرَ أنّهَ بَقِيَ جَبلاً أشمَّ من الثقةِ بربِّه؛ يتأسّى به السائرون في طُرُقِهم الوَعرة، وبحراً طَهوراً من الرضا، يرسل أمواجَه فتغسلُ الدنيا من أدرانِ التسخُّطِ واليأس.
ففي سَنةٍ واحدة: توفي الرجل الذي حال بين قريش والنيلِ منه، وكان عمُّه أبو طالب ظَهْراً له لا يستهان به، ثم بعد قرابة شهرٍ قضتْ زوجتُه التي كان يقول فيها: ((ما أبدلني الله عزَّ وجل خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)) "أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين".
ثم تبع ذلك مكابدةٌ في طريق الدعوة، فخرج إلى الطائف يلتمسُ من أهلها موافقتَه في أمره واستجابَة دعوته، فخيَّبَ القومُ ظنّه، بل أغرَوْا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمونه بالحجارة، حتى أن رِجلَي رسول الله صلّى الله عليه وسلم_ تفديه أرواحُنا وأموالنا_ لَتَدميان.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. أيُّ نفس عظيمة تلك التي تقوى على تحمل تلك العذابات المتلاحقة التي تتالتْ عليك في سَنة واحدة!
بعد كلِّ هذه الجراحات التي عانى منها المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، اقتضت سنّة الله تعالى أن يكرَمه ربُّه بخارقةٍ تكون له عزاءً وبشرى، فكان الإسراء والمعراج، وكان الكرمُ الإلهي المدهش، فقد صلى رسولُ الله بالأنبياء في بيت المقدس إماماً، ثم عُرج به إلى السماء ضيفاً مكرّماً ولا كلُّ الضيوف، فقد كان يُسأل جبريل: ((من معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال: مرحباً به ولَنِعم المجيء جاء)) "صحيح البخاري وغيره".
ثم كانت مكرُمة الصلاة التي فُرضت خمساً، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم: ((.. وجُعلت قرّة عيني في الصلاة)). " جزء من حديث أخرجه النّسائي في سننه وأحمد في مسنده، وهو صحيح".
ثم عاد إلى فراشه وقد أنسَتْه تلك المِنَحُ آلامَ الأيام الماضية.
إنّ هذه المِنح الربانية جاءت بعد ابتلاءات عِظام، ما لَان صاحبُها أمام التحديّات التي تعرّض لها وما انكسر، بل كانت الضربات تزيده قوة، فيتسامى راضياً فوق جروحه، وبلغ من رضاه أن دعا ربّه قائلاً: ((اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس... اللهم إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي)) "الطبراني في المعجم الكبير وحسّنه العلماء بشواهده". ولم يقل: اللهم إليك أشكو ثَقيفاً.
وقد بُعث إليه ملَكُ الجبال _ كما جاء في الصحيحين_ يسأله: إن شئت أن أطبقَ عليهم الأخشبين؟ فما انتقم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، بل قال: ((بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابِهم من يعبُدُ الله وحده لا يشرك به شيئا)).
إنَّ هذه الجوائز تنزل على القلب الراضي عن ربّه، ويُحرَمُ منها المتبرّمون اليائسون، فقد صحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد أعرابياً مريضاً، فقال: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله. فقال الأعرابي: طهور؟ بل هي حُمَّى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فنَعم إذاً))، ومات الرجل ساخطاً، ولو أحسن الظن بربّه راضياً لكان خيرًا له.
إن اليأس مادةُ المنافقين والكفار، وليس للمسلم إليه سبيل. بل على المسلم أن يرضى ويطمئن، ويُوقن بأن وراءَ ليل البلايا فجرَ العطايا، وأنَّ لكلِّ قلب راضٍ إسراءً ومعراجا.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة