بين نعمة الحجاب، ونقمة الحسّاد.
لقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وزوجه حوّاء، وأسكنهما الجنة، وأمرهما بأمر واحد ينبغي عليهما الحذر من فعله، وبيانه في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} البقرة.
ولما وسوس الشيطان الرجيم لهما، وأغراهما وقاسمهما النصيحة، كما ورد في قوله تعالى: {.. وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} الأعراف.
فماذا كانت النتيجة؟ قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}.
فأول نتائج مخالفة آدم عليه السلام، وزوجه، للأمر الإلهي؛ كشف العورات وظهور السوءات.
ولما كان الستر، والاحتشام من دواعي الفطرة السليمة. كان أول ما فعله آدم عليه السلام، وزوجه؛ أنهما جعلا يرقّعان، ويلصقان ويصلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما، وهذا يعني أن الأصل هو الستر، وأن الآدمي ذكرًا كان أم أنثى لم يُخلق أحدهما أو كلاهما ليسيرا عراة.
لأن ما أمرهما الله بستره، ومنع كشفه هو من دواع التكريم لآدم، وذريته وتفضيلهم على سائر المخلوقات. قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
ولما كان للأنثى النصيب الأوفر من الستر، والحجاب، كونها ليست كالذكر، لا في تكوينها ولا في ما خصّها الله تعالى به من خصائص بدنية، جعلتها مقصدًا ومطلبًا عند الرجال. كان فرض الحجاب الذي جاء وصفه ليس أمرًا بشريًّا خاضعًا للأمزجة والأهواء، وقابلًا للمساومة والأخذ والعطاء؛ بل من عند ربّ السماء.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59)} الأحزاب.
عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ)، خرج نساء الأنصار، كأنّ على رؤوسهنّ القربان من السكينة، وعليهنّ أكسية سود يلبسنها.
والذي عليه القول، عند أكثر العلماء، الحجاب؛ غطاء لكامل الجسد ما عدا (الوجه والكفين)، وذلك لما ورد في الحديث الشريف، أن أسماء أخت عائشة رضي الله عنها، دخلت وعليها ثياب رقيقة، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا أسماء إذا بلغت المرأة الحيض فلا يجوز منها إلا وجهها وكفّيها).
وليس في هذا الحكم القرآني، والتثبيت النّبوي تدرّج في العمل به، كما هو الحال بالنسبة لأحكام التحريم للخمر مثلًا. وتعليل ذلك أنه لا يمكن عقلًا ولا شرعًا، أن يكون الحجاب الشرعي يُعمل به على درجات، بستر بعض البدن وترك البعض الآخر. فهو تشويه لصورته وتهوين من مقامه، وأيضًا ليس في هذا الحكم تخصيص بتبرير ذلك للبعض؛ أنه جاء فيه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ابتُدئ الأمر فيه لأزواجه وبناته، وغفلوا عما بعدها.. (ونساء المؤمنين).
فهو إذًا خطاب للأسوة والقدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يبدأ بأقرب أهله إليه من الزوجات، والبنات، لأنهنّ فيما يفعلنه، يكنّ فيه مثالًا يحتذى به للآخرين. والله تعالى يقول: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32)} الأحزاب.
وبناء على ما تقدم قوله، نقول أن الحجاب الإسلامي الشرعي؛ هو ليس من موروثات الجاهلية، ولا هو من الأمور الفرعية المختلف فيها. وليس هو فرض كفاية، تقوم به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبناته، فيسقط عن سائر النسوة من غيرهن.
إنما هو فرض لازم، ينبغي لكل أنثى بلغت سن التكليف، أن تلتزم مع سائر بنات جنسها به، على الوجه الأكمل بلا تلبيس، بالجمع بما هو ساتر للرأس من خمار، وترك لسائر البدن بما يلائم الموضة ويرضي شياطينها.
وأيضًا من مقتضيات الالتزام بالحجاب الشرعي، ترك كل ما فيه زينة لافتة في الوجه، بما يلفت الأنظار، ويجعل المرأة محط نظر الآخرين، ويُفقد الحجاب هيبته ووقاره عند أهله.
إن الحجاب نعمة ربانية، أنعم الله تعالى بها على المرأة المسلمة، الحرّة العاقلة، حفاظًا على قيمتها، ومنعًا للأعين الجائعة من التهامها بالنظر، والتعريض باليد أو اللسان.
ولما كان هذا الذي خص الله به المرأة، لا يروق للكفار ولضعاف الإيمان. وما نراه في أيامنا هذه خير شاهد ودليل على ذلك؛ حيث أنه تقوم حرب مسعورة لا هوادة فيها من كل أبواق الكفر، والنفاق، والدجل من خارج بلاد المسلمين، وداخلها، تنعت المحجبات الطاهرات بكل نعوت التخلّف والرجعية؛ لأنهنّ لم يواكبن تقدم العصر، ولا قمن بركوب موجة التمدّن، والعصرنة الزائفة. وكل ذلك منبعه حسد على ما آتى الله المرأة الصالحة من فضله، والحجاب واحدًا منها قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
إن الحجاب ليس تخلفًا، ولا تقهقرًا إلى الوراء؛ بل هو عودة للفطرة التي ما تردد آدم عليه السلام، وزوجه إلى الستر بما هو ملائم لها ومتفق معها. ولو بأوراق الشجر..
إن الله تعالى يريد للمرأة، التي هي لؤلؤة مكنونة في أصداف مختومة، أن لا تفقد قيمتها، ولا يرخص ثمنها بالعرض الذي يراه الغاد والرائح، أمام ناظريه وتلمسه يداه بلا حائل، ولا مانع.
إن أعداء هذا الدين، يلهثون وراء كل مسلمة حرة عاقلة، بقصد خلع هذا الرداء الطاهر، الذي يسترها ويحفظ لها عرضها ودينها، وهو جزء من الصراع الدائم في الأرض بين الحق والباطل، ولن يتوقف إلى يوم القيامة والفصل بين العباد.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة