د.غنى عيواظة: دكتوراه في الفقه المقارن، محاضِرة جامعيّة شاركت في العديد من المؤتمرات الدّوليّة والنّدوات.
على أعتاب شهر محرّم وسنة هجريّة جديدة ١٤٤٤هـ
أصدر الأزهر الشريف قرارًا في ذي الحجّة ١٤٤٣هـ، يتناول فيه "أنّ من محظورات العيد تناول المحرّمات ليلة العيد، وخروج الشّباب والفتيات إلى المتنزّهات غير ملتزمين ضوابط وأوامر الإسلام، وخروج المرأة إلى صلاة العيد متزيّنة غير ملتزمة بالحجاب، مواصلة قطيعة أحد الأقارب أو الأصدقاء، وأنّه لا تجوز صلاة النّساء إلى جوار الرّجال في صلاة العيد، وتُكرَه زيارة القبور في يوم العيد؛ لأنّه يوم بهجة وسرور".
فانتقد فريق من المغرّدين والمدوّنين بيان الأزهر انتقادًا لاذعًا، لكنّ نطاق الانتقاد اتّسع ليشمل جدلًا أوسع حول المؤسّسة الدّينيّة، فقالوا بأنّ " شيخ الأزهر ليس وصيًّا على المجتمع والحجاب ليس فرضًا.. وأنّ هذا تغوّل على سلطات الدّولة".
فأقول لمنتقدي الأزهر:
بتنا اليوم في القرن الخامس عشر هجريّ، الواحد والعشرين ميلاديّ، أي أنّه قد مضت عدّة قرون على بعثة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وإنّ مرور ١٠٠ عام فقط لقادر على أن يمحو معالم أيّ فكر ظهر في العالم وانتشر، لتبقى ذيولُه تلملم بقايا عناصره الذين يتشدّقون به وبجمال تبعيّته.
أما إنّ مرور خمسة عشر قرنًا على البعث المحمّديّ، لهو أكبر دليل على أنّها النّبوّة يا سادة.
أصلها ثابت وفرعها متماشٍ مع كلّ تطوّر لا ينفكّ عنه، كيف لا، وهو قائده نحو كلّ خير لفصيلة الإنسانيّة.
فإنْ تكلّم الإسلام عن الحجاب فهو الحجاب، لن يتدرّج ويتطوّر ليصير إلى خلعه معاصرة للموضة أو التّطوّر التّكنولوجيّ.
وكذا الصّلاة!
تبوّؤك لأعلى المناصب وأسمى درجات الشّهادة العلميّة، لا تنفكّ عن وقوفك خمس دقائق بين يدي الله سبحانه تؤدّي له واجب العبوديّة خمس مرّات يوميًّا، فمنها انبثقت علوم اقرأ.
إنّ الحجاب والصّلاة وغيرها من العبادات هي محض تسليم لله الواحد الديّان، كما أمر لا كما رغبنا.
نعم، إنّ المحجّبة والمصلّي والعابد، بإمكان كلّ واحد منهم أن يجلس خلف أحدث آلة تكنولوجيّة، يديرها وينشئ من خلالها عملًا يخدم البشريّة جمعاء.
فلا هذا ولا ذاك منعه من العمل، بل زاده شرفًا وتميّزًا .
وإن انقطاع التّشريعات بعد الإسلام، لهو أكبر محفّز للإنسان أن يسأل نفسه عن مكنون هذا التّشريع، والبحث فيه عن أحكام الخالق التي قد يرفضها العقل فيتقبّلها القلب المحبّ لربّه.
نحن في قرن يبحث فيه الباحثون عن كائنات تعيش خارج كوكب الأرض، أو ربّما في القسم الجنوبيّ منه، تُحدث تغييرًا واضحًا فيه، أما إنّ هؤلاء البشر غريبي الأطوار كما أسمَوهم، ليعيشوا بينهم، يأكلون كما تأكلون، ويتمتّعون بما أحلّ الله لهم، ولهم شاراتهم المشعّة ضوءًا ونورًا وإشراقًا وأملًا بالإصلاح الشّامل.
ألا إنّهم هم المسلمون، قال عنهم سيّد ولد آدم في حديثه الشّريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء".
وها نحن اليوم على أعتاب شهر محرّم بسنة هجريّة جديدة ١٤٤٤هـ، أعاد الله أعوام السّعادة على الجميع بالخير واليمن والبركات، ليذهب بنا الحنين إلى يوم الهجرة، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليًّا أن يؤدّي الأمانات إلى أهلها ففعل، حيث كان أهل قريش يضعون أماناتهم عند النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلم.
بأبي أنت وأمّي أيّها الصّادق الأمين.
حين انطلق مع أبي بكر نحو غار ثور لتلحق به قريش، فتمنعهما منها، بأمر الله سبحانه، خيوط عنكبوت نسجت على باب الغار، وقبلها إيمان نبيّ أجاب صاحبه القلق :
"مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيِنْ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ".
تواصل المسير مرورًا بخيمة أمّ معبد الخالية من الطّعام، والتي امتلأت عن بكرة أبيها زادًا ولبنًا ببركة مسح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ضرع الشّاة ليعمّ الخير المكان ويشرب منها الجائع والعطشان، حتّى قالت أمّ معبد واصفة رسول الله لزوجها العائد:
"رأيتُ رجلاً ظاهرَ الوَضاءةِ، حُلوَ المَنطقِ فصلٌ لا نزْرٌ ولا هذْرٌ، كأنَّ منطقَه خَرَزاتُ نظمٍ يتحدَّرْنَ ".
يرجع بنا الحنين إلى مسجد قباء الذي أسّسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أثناء هجرته، ولا زالت أعمدته اليوم تشهد لهذا النّور المحمّديّ.
وليلقى الزّبير في ركب من المسلمين كانوا تجّارًا قافلين من الشّام إلى مكّة، فيكسوهما ثياب بياض يزيد النّور تلألأً وتوهّجًا.
وفي ظهر الحرّة وعند بني عمرو بن عوف، أسّس مسجدًا وصفه الله سبحانه في القرآن الكريم بمسجد أسّس على التّقوى.
ولأنّه نبيّ تراه يعمّر المكان حيث ينزل، لا يهدم ولا يخرّب كعادة الملوك والطّغاة.
وليدخل المدينة بعدها في يوم الجمعة ١٢ ربيع الأوّل، إذ عمد الأنصار بأسلحتهم لاستقباله صلوات ربّي وسلامه عليه.
فأسّس فيها مسجد المدينة المنوّرة ثاني الحرمين الشّريفين.
وطفق ﷺ ينقل معهم اللّبن في بنيانه، وهو يقول:
"اللّهمّ إنّ الأجرَ أجر الآخِرهْ فارحَمِ الأنصارَ والمهاجرهْ" .
والقصّة لم تنتهِ هنا، بل هي باقية بسيرتك الزّكيّة العطرة إلى يوم القيامة.
ولو كانت رحلة هجرة لنا اليوم، نحن المسلمون، لسلكنا نفس طريق هجرتك، نحني الجِباه ونْقبّل التّراب الذي وطأت عليه الأقدام المحمّديّة وصولًا إلى المدينة المنوّرة، نسلّم ونصلّي عليك في الرّوضة الشّريفة.
المتيّمون فيك نبيًّا رسولًا قائدًا داعيًا هاديًا سراجًا وقمرًا منيرًا.
وليست تساع الأسطر ولا الكلمات وصفك
صلّى عليك الله ما حنّ قلب ورجا دعاءٌ سماء.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة