ماجستير في الدراسات الإسلامية
مسؤولة اللجنة الدعوية - جمعية الاتحاد الإسلامي
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزُمَر،42].
إنّ الموت ليس بالضرورة أن يتعلق بسبب حتى يحصل، وهو لا يحتاج إلى مقدّمات ليتحقق، ومقولة "تعدّدت الأسباب والموت واحد"، لا يفترض أن يُفهم منها أن الموت لا يحصل إلا بسبب.
فمعنى الآية الكريمة واضح في أنّ الله تعالى، هو الذي يتوفّى الأنفس حين موتها.
فالموت ليس نتيجة، والموت ليس ردة فعل على فعل ما، فكلمة "حين" هنا، تدل على الظرف الزماني (الوقت)؛ يعني متى انتهى أجَلُ هذه النفس، يتوفّاها الله تعالى.
فمسألة الموت في حقيقته، يقع بالنفس دون مقدمات ودون ارتباط ودون تعلّق بسبب؛ إنّما هو انقضاء الأجل المكتوب في لوحِ القدر قبل أن يخلقَ الله تعالى المخلوقات.
والمعنى الثاني الذي يُفهَم من الآية هو التالي؛ الله تعالى يُمسكُ الموتَ (مسمَّى انتهاء الأجل)، على النفس التي انتهى أجلُها، ويرسل الله تعالى النفس التي لم ينته أجلُها.
فالمسألة باختصار، هي آجال مكتوبة في كتاب، لا يَضِلُّ ربُّنا ولا ينسى.
لا يسرِّع في مجيء الأجل شيء، كما لا يؤخِّره شيء...
وكم من مريض عاش دهراً، وكم من معافى مات فجأة...
ونرى كيف يموت طفل بعد ولادته...
ونرى طفلًا وُلد "بمتلازمة سيندروم" يحدِّد الأطباءُ له زمناً قليلاً ليعيش! فيعيش ويكبر ويموت بعد عمر طويل... ونرى طفلَيْن توأمَيْن متلاصقَيْن يعيشان دهراً رغم استبعاد الأطباء عيْشهما زمناً..
ونتلقى الدرسَ في مسألة الأجل المكتوب يقيناً في قصص الصحابة المجاهدين في الفتوحات، ولعلّ أشهرها، قصة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي ثبتت له مقولة خالدة: "حضرتُ مائة زحف أو زُهاءها، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه طعنةٌ برمح، أو ضربةٌ بسيف، وها أنا ذا أموتُ على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء"، حيث يتجلى لنا عدم حتمية حدوث الموت في أكثر مكان اعتاده الموت.
إذن، الموت هو مسألة وقت فقط: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام 60]، فلكلّ شيء مخلوقٍ أجَل، ولكلٍّ أجَل كتاب خاص به.
لا علاقة حقيقية، إنما هو عقلنا المحدود الذي يقصُر عن فَهم هذه المجريات الربانية، حيث يضطرب العقل إذا لم يربط الأشياءَ بعضها ببعض ليفهمها.
«واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك» [أخرجه الترمذي، وأحمد].
فلا صحة لمقولة (نجا من الموت)!
ولا صحة لمقولة (أنقذناه من الموت)!
ولا صحة لمقولة (شارف على الموت وعاد)!
بل هي: لم ينته أجلُه...
قد يحوز المرء على كل ما من شأنه قتلُ نفسه (أقصد الانتحار، والعياذ بالله تعالى)، ويحاول إطلاقَ النار على رأسه مثلًا فلا يموت! ببساطة لأن أجله لم ينتهِ...
قد يرمي المرء بنفسه في ما يظهر للجميع أنه حتفه، ويخرج حيًّا.
بل إن مقولة " ما زال له عُمُر" - التي يقولها العامة لمن عاش تجربة قاتلة وظل حيًّا - هي المُحكَّمة والضابطة للمُجريات.
ولذلك حرّم الله تعالى، مالكُ الملك والأنفس، الانتحارَ، وتوعَّد المنتحر بعذاب أليم، ففي الحديث: "كان فيمن قبلَكم رجل به جُرح فجَزِع، فأخذ سكِّينًا فجزَّ بها يده، فما رقأ الدمُ حتى مات، فقال الله تعالى: «بادرني عبدي بنفسه؛ حرّمت عليه الجنة» رواه البخاري.
أي حاول إنهاء أجله متعجِّلاً إياه، وهذا مُحال أن يحصل بغير قضاء صاحب الشأن والأمر والخلق.
نرى _مثلاً_ الطغاة الفراعنة، وقد بلغوا من العُمر شأواً، فنَصِفُ حالَهم هذا بقولنا (على حافة القبر)، فلا يموتون - ومنهم من يتعرض لمحاولات اغتيال- ولا يموتون.
وقد أقرّ القرآن الكريم قانوناً دنيوياً لا يتغير ولا يتبدل {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء،٧٨]، والموت كأس، الكلُّ ذائقها.
وحين ينقضي أجل الواحد من البشر، يأتيه الموت؛ فينقلُه من دار الدنيا إلى دار البرزخ، حيث ينتظر الروح فيها زمناً ما حتى تقوم القيامة، وكم من بشريّ تزلزلت الأرض تحته وغاص في أنقاض مبنى وقع عليه، فخرج بعد أسابيع وهو حيٌّ يُرزق!
ولنا في الطفل ريان الذي سقط في بئر عميقة كلَّ العبرة واللهِ... فالمنطق المُشاهَد يقول:
الطفل مات، سقط وتضرَّج بالدماء، وهو صغير لن يتحمل العتمة والرطوبة والكسور والنزف وانقطاع الهواء والجوع.. لكنه لم يمت فور وقوعه كلا، ظلّ أياماً على قيد الحياة، لأنّ أجله لم ينته .
ولنا في هيئة موت سيدنا سليمان عليه السلام كل العبرة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ،١٤].
وكم من مصلٍّ مات في الصلاة، وكم من سَقيم خرج من غرفة العمليات المرة تلو المرة، وكم من مذيعٍ للأخبار مات على الهواء.. وكم من لاعب رياضة مات وهو يلعب...
إذن هي أعمار محددة، آمنا بالله تعالى. للإنسان أجل مسمّى، وللمحنة أجل مسمّى.
هي سنّة ربانية في الحياة، واقعة لا محالة، ولها نهاية لا بدّ، كما قال ابن القيِّم رحمه الله؛ أحد علمائنا العظام:
إنّ للمحن آجالًا وأعمارًا كأعمار ابن آدم، لا بدّ أن تنتهي.
فسبحان مالك الملك، مقَدّر الآجال، الحكيم في ملكه.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ماجستير في الدراسات الإسلامية
مسؤولة اللجنة الدعوية - جمعية الاتحاد الإسلامي
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن