نوقٌ كُوم
سبعون رجلًا يزيدون أو ينقصون، تجدهم - ليلَ نهارٍ - يأوون تحت ظُلَّةٍ، لا يُحيط بهم ساتر في بردِ شتاء، ولا حَرِّ صيف.
أولئك هم أهلُ الصُّفَّةِ من فقراء المهاجرين، وقد لَحِقَ بهم بعضُ إخوانهم الأنصار من فقراء المدينة؛ نزلوا جميعًا في مؤخَّر المسجد النبوي، يبتغون قُرْبًا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ يلتمسون منه علمًا، ويجاهدون تحت لوائه، يُطعمهم ويَسقيهم؛ فإذا أُهدي إليه أهداهم، وإنْ أتته صدقاتٌ تصدَّق بها عليهم، هكذا قد أحاطتهم عنايته، ومَنَّ عليهم برضاه.
أحبَّ - بأبي هو وأُمّي - يومًا أن يُفرح قلوبَهم فأنار بطلعته مجلسَهم، ثمَّ بشَّرهم: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطْحَانَ (وادٍ قرب المدينة يُقام عنده سوق)، فَيَأْتِيَ منه بنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (عظيمتَي السَّنام)، في غيرِ إثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كُلُّنَا يُحِبُّ ذلكَ، قالَ: أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ» [مسلم].
راح أهلُ الصُّفَّةِ بعدها كلٌّ ينافس أخاه في تعلُّم القرآن وتعليمه وتلاوته، والحال أنَّ أحدَهم لا يجد رداءً تامًّا يستره؛ فإما إزارٌ وإما كِساء، يربطه في عنقه يبلغ به نصفَ ساقِه، وهو يجمعه بيديه كراهةَ أن تُرى عورته! ويعتمد آخَرُ بكبده على الأرض، أو يربط حجرًا على بطنه، يُسكِت بذلك جوعَه!
في رمضاننا هذا: تلبَّس كثير من المسلمين بحال أهلِ الصُّفَّة؛ وقد أحاط بهم الفقر، وضاقت عليهم السُّبُل؛ يكاد أحدهم لا يجد ما يسدُّ به رمق أطفاله، بل إنَّ بعضهم قد بات بالعراء لا يجد حتى صُفَّةً يستظلُّ بها!
في تلك الداهية الدَّهْياء، فلنقتدِ برسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ولْيَحُثَّ بعضُنا بعضًا على تعلُّم القرآن وتعليمه، ولْنتنافس في تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، نتدارسه ونتدبَّر آياتِه.
في رمضاننا هذا: لِنَجْمَعْ - في أسواق التلاوة - نُوقًا كُوْمًا في غير إثم ولا قَطْعِ رَحِم، ولْيَبْسُطْ غنيٌّ يديه مواسيًا فقيرًا: يُطعمه، ويَكسوه، ويُؤويه.
حقًّا لِيَهْنِنَا الإسلامُ، ولْيَهْنِنَا رمضانُ: شهر القرآن والإحسان.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!