ولد في مدينة حلب من سورية عام 1370هـ الموافق 1951م، دخل كليّة الشريعة في جامعة دمشق عام /1969/م وتخرّج فيها عام /1974/ م. عمل إماماً وخطيباً في بعض المساجد في حلب، كما عمل في التعليم في بعض المدارس المتوسّطة والثانويّة التابعة لوزارة التربية . ثمّ عمل مدرّساً في الثانويّة الشرعيّة. بعد خروجه من سورية قدم إلى المملكة العربيّة السعوديّة بتاريخ 1403هـ، وعمل في مدارس الفلاح أحد عشر عاماً ، ثمّ تركها،
عَبَقُ الذكرَيات!
للذكريات الجميلة عَبَقٌ في النفس، وقَدْح لزناد الفكر، وتجديد للحياة، بما يشبه استعادة الشباب الآفل، واستبعاد الشيخوخة الحاضرة.. فهي ليست من غرور الأمل، ولا من تسلّط الغفلة في شيء ما دام نهج الجدّ والعَمل رائدها وقائدها..
يقول الله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]. وختام الآية يشير إلى أنّ التذكير بأيّام الله ينفع كلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.. لأنّ حال الإنسان فرداً كان أو أمّة يجري بين النعمة والبلاء بالفقد، وبين الشكر أو الصبر..
إنّ لكلّ منّا ذكرياته الخاصّة من سالف أيّامه، تختزن في ذاكرته، فتستعصي على النسيان، مهما تقادم عليها الزمان.. تلك الذكريات لها عَبَقُها الخاصّ في نفسه، ولها لذّتها الخاصّة، لمَا فيها، ولمَا يحيط بها، فيستمتع بها، ولو لم تأخذ ذلك الاعتبار والاهتمام عند الآخرين.
عَبَقُ ذكرياتِك يدخل في كلّ شيء مهمّ في حياتنا؛ فهو يجعل لبعض الطعام والشراب مَذاقَه الخاصّ، ولبعض اللباس والزينة والعطور مأثرتها وخصوصيّتها، ولبعض الأماكن والأعمال والمَشاعر نكهتها الخاصّة، والحديث هنا عن عَبَق الذكرياتِ، ولسنا بصدد الحديث عن عكس ذلك من ذكرياتِ الألم وأشجانها، ومخزون البلاء والأحزان، فلكلّ مقام مقال..
والذكريات العَبِقة منها ما يكون خاصّاً بالفرد، فلا يهمّ الآخرين، ومنها ما يكون خاصّاً بالأسرة، يجمع بين أفرادها على أمور مشتركة، تهمّ جميعهم، ولها وقع خاصّ في قلوبهم ومشاعرهم، ومن الذكريات ما يشترك فيه المُجتمع بعاداته وتقاليده، وأفراحه وأتراحه، ومنها ما تجتمع عليه الأمّة، فيكون جزءاً من تراثها، ومخزونها الثقافيّ، ومعلماً من معالمِها وسماتها الحضاريّة، التي يتغنّى بها الرجال، ويعتزّون بها، وتتناقلها الأجيال، جيلاً بعد جيل..
وخير الذكريات ما يكون فيها للدين وحقائقه ومبادئه مقامه الأكبر، وحضوره الأوفر..
وعندما لا يكون لأمّة مّا مخزون ثريّ من الذكريات الجميلة، العَبِقة بالمَشاعر المُؤثّرة، التي تعتزّ بها وتفخر، فإنّ مفكّريها وأدباءها، وفلاسفتها ومنظّريها، ينقّبون في ماضيها، ولو كان سحيقاً، ويتحايلون لينسجوا لها الكثير من المَفاخر والخيالات، والأوهام والأمجاد على قليل ما عندها من الذكريات، ويعملون على بثّها في الجماهير، ويخترعون لها الأعيَاد، لتكون ثقافة لها في الحاضر، تتربّى عليها الأجيال، ثمّ ينسج عليها الخيال ما شاء من المَآثر والأمجاد والذكريات.. وكثيراً ما يُمسكُ مُفكّروها ببعض المَبادئ والحكم، التي تغنّى بها الكبار في يوم ما فيشيدون بها، ويعظّمونها وهي لا تعدو أن تكون إرثاً إنسانيّاً مُشتركاً، لا وزن ولا عبرة للحديث عنه إلاّ بقدر ما يكون واقعاً معاشاً، يتعامل به الناس بصدق، ويفرض قيمه على حياتهم..
وعَبَقُ الذكريات يتّصل بالزمان والمَكان والإنسان، ويحرّك المَشاعر والوجدان.. وهو أمر من فطرة الله تعالى لهذا الإنسان، وله أصل أصيل في كتاب الله، وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ومن ثمّ فهو وسيلة أصيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، ينبغي أن لا تهمل أو يغضّ من أهمّيّتها وأثرها..
وعَبَقُ الذكريات يضفي على الأحكام الشرعيّة صبغة خاصّة، كما يضفي على المَكان روحاً مُتميّزة، تربط الحاضر بالمَاضي، بل تجعل المَاضي في قلب إنسانِ الحاضر ووجدانه ؛ يوقظه ويحرّكه ويحفّزه.. وتمنح الزمان والمَكان خصوصيّة متجدّدة، فهي جزء من قدس النبوّة، وبركة الوحي، وقيم الحقّ والهدى. وهذا ما قرّره الحقّ سبحانه بدلائل قطعيّة من خصوصيّة بعض الأزمنة والأمكنة، وتفضيل بعض الناس على بعض..
أليسَت شعائر الحجّ ومشاعره تحمل عَبَقَ ذكريات المَكان والزمان، والوحي والإنسَان، وبعد الرسالة، وحركة التاريخ كلّه.. وتضع ذلك في إطار من التشريع الربّانيّ، الذي يتقرّب به العبد لخالقه، وهو يستحضر تلك الذكريات، فيكون للتشريع مذاقاً حيويّاً خاصّاً، ونكهة روحيّة آسرة، وكأنّه شخص صديق حبيب، يحدّثك وتحدّثه، ويناجيك وتناجيه..
أليسَت خصوصيّة الأنبياء عليهم السلام في سموّ حياتهم، وعَبَقِ أخلاقهم، وسموّ صفاتهم ممّا لا ينازع فيه عاقل من العقلاء، وهم بذلك أسوة حسنة، ومنارات هدى، ومصدر إسعاد للناس في كلّ زمان ومكان، قال عزّ وجلّ: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..} [الأنعام: 90]..
عَبَقُ الذكريات يلقي ظلالاً من الحبّ والأنس على الواقع الذي يعيشه الإنسان، مهما بلغ مِن بُؤسه وضرّائه، فيخفّف من ثقله ولأوائه، ويحيله مُتعة روحيّة خالصة، لا مكان فيها لمَشقّة التكليف والابتلاء، ما دامت تتقلّب في نعماء الذكريات المُحفّزة الجميلة وعَبَقها..
عَبَقُ الذكريات لا يعني الشطط والغلوّ في تقديس ذي الخصوصيّة بحال، فالشطط والغلوّ نوع من الكذب والتزوير يتخفّى وراء ظاهر مخادع.. وإنّما عَبَقُ الذكريات صدق وشفافية، يعترف بحقّ ذي الفضل ومقامه، ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه.
عَبَقُ الذكريات يضفي على هذا الدين بعقيدته، وعباداته، وتشريعاته وأخلاقه، روحاً من الحبّ والأنس، ولو في أشدّ أحوال الابتلاء، لأنّ كلّ حقيقة من حقائق هذا الدين تحمل ذكريات واقعيّة مشهودة، لها دلالتها وتأثيرها، من حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وسيرته العطرة، وأخلاقه وشمائله وأحواله، وحياة الرعيل الأوّل من أصحابه، الذين تمثّلوا هذه الحقائق بكلّ صدق وإخلاص وتضحية، في حياتهم الخاصّة، وعلاقاتهم العامّة، وعاشوها بأرفع مشاعر الحبّ والالتزام، والتضحية والفداء، والمَسارعة في مرضاة الله تعالى، كما تحمل أجواء البيئة المُجتمعيّة، التي تمثّلت فيها هذه الحقائق أروع تمثيل..
فهذا بلال رضي الله عنه يُبتلى في عقيدته أشدّ الابتلاء والعذاب، فلا يزيد على قول : « أحَدٌ.. أحَد » يُعذّبُ بها مُعذّبيه، أكثر ممّا يعذّبونه!!
وهذه سميّة زوجة ياسر رضي الله عنهما، تعذّب حتّى تستشهد تحت العذاب، ولا يستطيع عدوّ الله أن يستخرج منها كلمة تُرضي طغيانه..
وهذا ابنها عمّار رضي الله عنه يعذّب حتّى لم يعد يطيق شدّة العذاب، فينطق بكلمة الكفر، وقلبه مطمئنّ بالإيمان.. ليكون موقفه تشريعاً لحالة المُضطرّين، الذين يعلم الله تعالى أنّ العدوان على دينهم وعقيدتهم سيتكرّر على مدى التاريخ، ولا يتوقّف..
وفي ذلك كلّه ذكريات عبقة، عن عمق تأثير هذا الدين، وأسوة حسنة لمَن سيأتي بعدهم إلى يوم الدين..
والرعيل الأوّل من الصحب الكرام، وهم خير القرون، أُمِرُوا بقطع كثير من التقاليد والأعراف والعادات، التي ألفوها إلى درجة التقديس، وكانت جزءاً من شخصيّتهم الاجتماعيّة وحياتهم، فتركوها غير مبالين بها، ولا آسفين عليها عندما أمروا بتركها.. لقد أُمِرُوا بترك العصبيّةِ القبليّة، والتخلّي عن حميّة الجاهليّة فنبذوها وراءهم ظهريّاً..
وأُمِرُوا بترك الخمر فأراقوها، وفطموا أهواءهُم عنها..
وأُمِرُوا بأحكام، كانت جديدة عليهم كلّ الجدّة في علاقاتهم الأسريّة والاجتماعيّة، ومواقفهم الأخلاقيّة، فسَارعُوا إلى الالتزام بها بصدق وإخلاص.. وكان لسان حالهم في كلّ شأن، مقالهم الذي كان يترجم صدق إيمانهم : {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِير} [البقرة:285]. فترَكُوا لنا من عَبَقِ الذكريات ما ينصب أمامنا أسوة حسنة، تملأُ حياتنا أنساً وبهجة، ورفعة وسموّاً..
وقس على ذلك كلّ القيم والعبادات، والتشريعَات والأخلاق، وطالع نماذج ذلك في حياتهم ومواقِفهم، وكذلك في حياة السلف من بعدهم، لترى كيف تتضوّع لك بعَبَقِ الذكريات الجميلة.. التي تصل حاضرك بذلك المَاضي المَجيد، فترفع همّتك، وتقوّي عزيمتك، وتجدّد دين الله في نفسك، وتضفي على حاضرك حياة، لا يشبهها شيء من هذه الحياة المَادّيّة الرعناء، التي غرق الناس فيها في أوحال الأهواء والشهوات، واللصوق بالأرض..
وأحكام الشريعَة كلّها لها ألقها المُبهج، وجمالها المُسعد، وأثرها المُبارك، الذي يمتدّ ولا يحدّ.. ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى القلب، مَطموس العقل والبصيرة؛ وقد كان من دعاء أهل الجنّة يومَ استقرّ بهم المُقام في الجنّة : {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} الأعراف.
وبعد؛ فإنّ الذكريات منها نعَم عُظمى، وانتصارات كبرى، ومَواقف مُشرِّفة، وأحكام حكيمة مُسعدة، ولكلّ ذلك عبق روحيّ مُتميّز، يصل الحاضر بالغابر، ويشحن الأبناء بما يتمّم مسيرَة الآباء، ويهب الأمّة المَجد والقوّة، والعوّة والسيادة بين الأمم..
ألا وإنّ للذكريات الجميلة أيّها الناس! عَبَقاً هو من روح الدين ووضاءته وحيويّته، وفاعليّته في المُجتمع وتأثيره، ينبغِي أن يأخذ حقّه وحظّه من الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الهدى، وتحبيب الخلق بدين الله ..
واعجَبْ بعد ذلك كلّ العجب! من قوم يفهمون دين الله فهماً جامداً، مختلاًّ أعوج، لم يستروحوا شيئاً من عَبَقِ ذكريات ماضينا الجميلة، ويريدون أن يحجبوا الناس عنها، ويقطعوهم بأوهام عليلة، وترّهات سخيفة من الجدل العقيم، بلا حظّ لرأيهم من روح الدين القويم، أو العقل السليم، ويعبثون بعقول بعض الناس لتكون مُتحجّرة مثلهم، في قوالب جامدة ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي من الافتراء على دين الله.. وكأنّهم يحسبون دين الله جلّ وعلا فلسفة عمياء، وأنّ الناس بأيديهم آلة صمّاء، وكفانا بثّ صور كاذبة، منفّرة من دين الله.
والله وليّ التوفيق والرشد والسداد.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة