الخجول
حملت سلمى صينيَّة القهوة بعد أن أصلحت من هيئتها، ومشت باتجاه غرفة الضيوف حيث يجلس والدها ومعه شابٌّ جاء يخطبها، وبعد ثوانٍ ستدخل عليهما!
أحسَّت سلمى أن يديها ترتجفان، وأنّ حلقها قد جفّ، وأن قلبها قد تسارع وَجيبُهُ، وأنَّها قد تصبَّبت عرقًا.. ولا تدري هل شحب لون وجهها أم أنه تورَّد من الخجل!!.
لم تستغرب ممّا حدث لها، فهي ستلاقي شابًّا غريبًا عليها، وهي تشعر أنّها في وضع امتحان. سيراقب قوامها ومِشيتها وطريقة تقديمها للقهوة... ثم إنّه سيحدّثها ليسمع منطقها، فهل ستنجح في إثبات كفاءتها في كلِّ هذا، وتنال ثقته وإعجابه؟! وهل ستنجح كذلك في توجيه الحديث لتكشف من جوانب شخصيَّته مثل ما يريد أن يكشف هو من جوانب شخصيَّتها؟!
لقد مرَّت الثواني بسلام، وقدَّمت القهوة لأبيها والشابِّ الغريب، من غير أن ينسكب شيء منها في الأطباق، وجلست قبالة الشابِّ، لكنَّها لم تكن تملك أن تنظر في عينيه، فكلَّما التقت عيناها عينيه غضَّت بصرها، أو حوَّلته إلى جهة أخرى. ومن غير قصد منها أو شعور، كانت تعبث بثوبها، أو تحرِّك أصابعها وكفَّيها حركات لا معنى لها.
إنّها ترى نفسها فتاةً خجولًا[1]، وأنّ الخجل سمة تصبغ معظم مواقفها وتصرفاتها. وهي لا تدري هل هذه السمة جاءتها بالوراثة أو اكتسبتها من تربيتها الأسريَّة، فأفراد أسرتها كلُّهم يتَّسمُون بالخجل، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، والإناث في أسرتها أشدُّ خجلًا من الذكور.
في الحقيقة كان الشاب الذي جاء لخطبتها خجولًا كذلك، لكنّ خجلَه أقلُّ حدَّةً من خجلها، فقد كان يجرِّئ نفسه على أن يسترق النظرات إلى وجهها بين الحين والآخر، وكان يتكلَّف أن يجد حديثًا يحدِّثها به، وأسئلة يطرحها عليها ليسبر أغوار نفسها، ويعرف شيئًا عن أحوالها وأخلاقها وقناعاتها... وكان يتلعثم قليلًا، ويُطرِق هنيهة ليبتلع ريقه ويغالبَ عجزه عن الاسترسال في الحديث، بل كان يصمت أحيانًا كأنّه لا يجد ما يقوله!.
وأمّا سلمى فقد كانت تجيب على أسئلته بصوت خفيض وكلمات مقتضبة، وكأنّها تريد أن تقفل الحديث، ولا تشجِّعه على المزيد.
إنّها ليست المرَّة الأولى التي تجد سلمى نفسها في مثل هذا الموقف، فكلَّما كانت في موضع ملاحظة الآخرين واهتمامهم شعرت بالضيق والتوتر، ففي المدرسة والجامعة كانت كلَّما طلبت المعلِّمة منها الخروج إلى السبّورة أو التحدِّث أمام الطلاب، أو دعتها إلى المنصَّة في حفل التخرِّج لتسلِّمها هديَّة.. شعرت أنَّ الأضواء تُسَلَّطُ عليها، وأنّ زميلاتها ينظرن إليها باهتمام، ويراقبن ما ستفعله أو تقوله، فاضطربت مِشْيتُها، وانعقد لسانها، فلا تكاد تتكلَّم بشيء. وهي، لذلك كلِّه، تُؤْثر الانسحاب، فقلَّ أن تحضر حفلًا أو سهرة، ولو كانت الحاضرات جميعهن من قريباتها وصديقاتها، وإذا دار نقاش أمامها فهي تبقى صامتة، ليس لأنّها لا تملك رأيًا، ولا تُميِّز بين فكرة وأخرى.. بل لأنّها تخاف أن تعجز عن التعبير عن رأيها بطلاقة، أو لأنّها تشعر أن كلامها لن يلقى اهتمامًا من زميلاتها. فإذا انفضّ اللقاء وخلت بنفسها تواردت إلى ذهنها الأفكار: كان بإمكاني أن أقول كذا، أو أن أردَّ على كذا...
***
هذه الصورة المفترضة لسلمى وخطيبها، تصوِّر حالة الخجل وتداعياته ومظاهره كما هو في الدراسات التي يقدِّمها علماء النفس. و حتى نزيد الصورة وضوحًا وتدقيقًا، إليك هذه الإضاءات:
1- كلُّ الناس، أو معظمهم، يخجلون، لا سيما الإناث. ومع ذلك هناك أناس يصِفُون أنفسهم، ويصفهم الآخرون كذلك، بأنّهم خجولون، بمعنى أن الخجل وصف غالبٌ عليهم، أو أنه سِمة تصبغ معظم مواقفهم وتصرُّفاتهم، بخلاف الآخرين، غير الخجولين، الذين لا يعانون من هذه المشاعر إلّا في حالات طارئة. ومعظم المجتمعات تتقبّل الخجل من الإناث وتَعُدُّه من كمال الأنوثة، ولا تتقبَّله من الذكور بل تعدُّه ضعفًا منهم.
2- أبرز مكوِّنات الخجل، كما يظهر في الصورة المفترضة، ثلاثة:
مكوِّنات عقليَّة أو معرفيَّة، حيث يصطبغ تفكير الفرد الخجول بصبغة القلق حول أدائه وسلوكه الاجتماعيِّ، وحول انطباعات الآخرين السلبيَّة عنه، وتقويمهم له، وحجم الخسائر التي سيتحملها نتيجة هذه الانطباعات. والخجول يسلِّط اهتمامه على الاحتمالات الأسوأ، ويُقلِّل من شأن نفسه وقدراته، ويُوجِّه اللوم لنفسه.
وكلَّما كان الخجول في موقف اجتماعيٍّ برز عنده الشعور بالذات، أي الشعور بأنّه محلُّ مراقبة الآخرين، وبذلك يسوء أداؤه للأنشطة التي يتقنها عادة، فالشعور برقابة الآخرين له يُضعف عنده العمليَّات العقليَّة والبدنيَّة فلا يعود يؤدِّيها بالكفاءة المعهودة.
مكوِّنات عاطفيَّة انفعاليَّة: وهي الشعور بالخِزْيِ والارتباك وضعف الثقة بالنفس. وهذه المكوِّنات (الانفعاليَّة) هي التي تَحدُث بشكل فوري لدى مواجهة الموقف الذي يُسبِّبُ الخجل، وتَتْبَعُه المعالجة الفكريَّة أو المعرفيَّة، ويكوِّنان معًا ما أسميناه "الشعور بالذات" أي الشعور بأنّه في بُؤرة مراقبة الآخرين.
مكوِّنات جسميَّة سلوكيَّة، منها ما هو داخلي، كازدياد معدَّل نبضات القلب، وزيادة في نشاط المخ... ومنها ما هو عضويٌّ ظاهر يُمْكِن أنْ نُلخِّصَه بمحاولة الانسحاب والهرب من المواقف وتحاشي المواجهة، أو ما يسمى "بسلوكيَّات الأمان"، وهي تتضمَّن الصمت، أو قلَّة الكلام، أو التكلُّم بكلام غير جدِّيٍّ وغير مفهوم، والتلعثم، وشحوب الوجه أو احمراره، والتعرِّق، وتجنُّب التواصل بالعين، وتجنُّب المصادمات، وربَّما تجنُّب الحوار كلِّه، أو تجنُّب حضور الحفلات والاجتماعات، والحركات العصبيَّة لليدين... وهذه السلوكيّات تُعَدُّ ناجحة على المدى القصير، إذ تُجنِّبُ صاحبَها مواجهة الموقف المُؤدّي إلى الخجل، أو تُجَنِّبه بعض تداعياته، لكنّها سيِّئة على المدى البعيد لأنّها تحْرِم صاحبها اكتساب الخبرات الاجتماعيَّة والتصرُّف بأسلوب إيجابيٍّ، واكتساب تشجيع الآخرين... بل إنّها كذلك تُعَمِّق الانطباع السلبيَّ في نفس الخجول عن نفسه، أي تزيده ضعفًا في مواجهة المواقف الشبيهة.
3- الارتباك الذي يقترن بالخجل يكون ثمرة لمعايير صارمة يضعها الخجول لنفسه، لدى اختيار أيِّ استجابة قوليَّة أو فعليَّة، ويرى أنّ هذه الاستجابة هي الأصوب والأجدى، ويقلق لاحتمال وقوعه في أيِّ سلوك غير ملائم... وهذا ما يوقعه في الارتباك. إنّه لا يتصرَّف بأريحيَّة وعفويَّة وبساطة.
4- ليس هناك جواب متَّفق عليه حول أثر الوراثة في الخجل، فإذا وجدنا أبناء أسرة معيَّنة على قدر متشابه من الخجل، فلا يعني بالضرورة أنهم ورثوا ذلك، وأن "جيناتهم" تحمل هذا العنصر، بل لعلَّ الجوَّ التربويَّ في البيت هو الذي جعلهم كذلك. والصعوبة في إثبات هذا الأمر أو نفيه تأتي من تداخل العوامل الوراثيَّة بالعوامل البيئيَّة منذ بداية العمر!.
5- ليس في تحليل الخجل، أو تحليل أي حالة نفسيَّة أخرى، قاعدة ثابتة وقوانين مطَّردة. فليس من الضروري أن تحدث كلُّ التداعيات المذكورة لدى كل خجول! في أيِّ موقف، بل يكفي أن يحدث كثير منها في كثير من المواقف، حتى يُعَدَّ صاحبها خجولًا.
6- قد يحدث التباس بين الخجل وبين ظواهر نفسيّة أخرى، بسبب بعض الصِّفات المشتركة، ولو ظاهريًا. فهل الخجل والحياء والخوف والارتباك والجبن... مترادفات؟ أو - في أقلِّ تقدير - هل هي متلازمات، إذا وُجِدَتْ إحداها وُجِدَتْ ظاهرة أخرى من هذه الظواهر أو وجدت تلك الظواهر جميعًا. الجواب: لا. والأمر يحتاج إلى مزيد بيان:
* الحياء هو الامتناع عن القيام بأمر شائن، مراعاةً لرقابة الله تعالى أو رقابة المجتمع. والحياء بهذا، كلُّه خير، ولا سيَّما إذا كان مراعاة لرقابة الله وخوفه وحبِّه، وهو شعبة من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح. وليس من الحياء أن يسكت المؤمن على الظلم والبَغْيِ والعدوان، وليس من الحياء الامتناع عن السؤال ليتعلَّم ما يفيده في دينه ودنياه. و"نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار، لم يكن يمنعهنّ الحياء أن يسألن عن أمور دينهن". كما قالت السيدة عائشة الصدّيقة رضي الله عنها.
* والجبن كذلك يختلف عن الخجل. وإذا كانت الشجاعة تقابل الجبن، فإنّ أحد ألوان الشجاعة يقابل الخجل فعلاً، وهو ما يسمى بالشجاعة الأدبيَّة. فصاحب هذه الشجاعة لا يكون في العادة خجولًا (ولكن قد يكون حَيِيّاً). وقد تجد - في المقابل - المقاتل الشجاع الذي يقتحم ساحات المعارك، وهو خجول في المواقف الاجتماعيَّة.
* والارتباك صفة تقترن كثيرًا بالخجل، فحين يسيطر الخجل على الإنسان فهو معرَّض للارتباك فعلًا. ولكن الارتباك يمكن أن يحدث بعيدًا عن الخجل تمامًا، كما لو أنّ إنسانًا تذكَّر موعدًا مهمًّا عنده وقد فات وقته أو كاد، فهو يرتبك في اتخاذ التدابير التي تجعله يدرك ذلك الموعد ولو متأخِّرًا، وكذا من كان في مبنى وشبَّ فيه الحريق فارتبك وهو يبحث عن مخرج!.
* والخوف صفة تشبه الجبن، وكثيرًا ما تقترن بالخجل. لكنّها حتمًا غير الخجل. فقد يخاف من نزول البحر من لا يعرف السباحة، فلا يقال إنّه يخجل من البحر، وقد تجد من لا يخجل من صعود المنصَّة وإلقاء كلمة في الجماهير، لكنّه يخاف من فأرة!! نعم إن ّالخوف الاجتماعيَّ، بمعنى التَهَيُّب من لقاء إنسان لا يعرفه من قبل، أو التهيُّب من مقابلة رئيس أو مدير، أو التهيُّب من المشاركة في حوار ضمن مجموعة من الناس... هو شكل من أشكال الخجل.
7- من مظاهر الخجل التي لم تعطَ حقَّها فيما سلف: الانطواء، وحبُّ العزلة، والاهتمام الزائد في إيجاد انطباع في نفوس الآخرين: أي أن يصبحوا محبّين له، أو خائفين منه، أو محترمين إيّاه...
8- بعض مظاهر الخجل وأشكاله تختلف حسب السنِّ، فنوع الخجل الذي يغلب وجوده في الأطفال هو خجل الخوف الذي يظهر في صورة الانكماش عن التعرُّف إلى شخص جديد (وهذا النوع من الخجل يقلُّ وجوده عند الكبار)، أما الخجل الذي يكثر وجوده عند الكبار فهو خجل الشعور بالذات وهو ما يعني الخوف من التقويم السلبيِّ الذي قد يصدر عن الآخرين (ماذا سيقول عنّي الناس؟)، ويندُر أن يوجد هذا النوع عند الأطفال.
كما أنّ الصمت هو أهمُّ مظاهر الخجل عند الأطفال، أما الكبار فقد يتغلَّبون - ولو نسبيًّا - على الصمت، ويتمكَّنون من قطعه ببعض الكلام.
9- أخيرًا، كلَّما عرف الإنسان حقيقة الخجل ومكوِّناته وأسبابه، وكلَّما كبرت طاقاته وإمكاناته وثقافته وعلمه... زادت ثقته بنفسه وقلَّ خجله.
وقد أفدْتُ كثيرًا، لدى كتابة هذا البحث، من قراءة كتاب نفيس عن الخجل من تأليف راي كروزير، وترجمة أ.د. معتز سيد عبد الله، وإصدار عالم المعرفة.
[1] صيغة فَعول بمعنى اسم الفاعل، كخجول وصبور وغيور... يستوي فيها المذكر والمؤنث، فيقال: فتى خجول وصبور وغيور، وفتاة خجول وصبور وغيور.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!