راما ماهر الشجراوي أردنية، من أصول فلسطينية كاتبة للخواطر والمقالات، ومدونة في الجزيرة، حاصلة على شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية وآدابها وتعمل في مجال التعليم
في غزّة فقط
لأول مرة منذ سنوات كتاباتي أفقد فيها القدرة على التعبير، تصطفّ الحروف تباعًا مشكلة كل كلمات العجز والخذلان، خذلت نفسي بأن أجاهد بقلمي، أن أترك بصمتي تتكلم بالنيابة عني، لكن بصمات الصمت تمكنت مني حتى قلمي، قلمي الذي كُسرت مقدمته وسال الحبر على أوراقي يبكي الأحداث والجثث والأطفال .
أردت الكتابة عن الحضن الأخير، عن الشهيد، عن الكفن والمقابر، لكنني أجدني أكتب دموعي وغضبي، أراني أنظر إلى السماء وأصرخ "يارب" كما هم تمامًا، تتعانق أصواتنا في السماء تزف الشهداء، شهيدًا يتلوه شهيد آخر .
هناك حيث الأم تودع أطفالها تباعًا، وفي مشهد آخر ستكون محتضنة إياهم مرافقة لهم حتى الجنة، تخاف فراقهم وإن كانوا في وسط الموت ينعونهم .
الجنين هناك يولد من رحم الموت، ينبض قلبه لأول مرة غضبًا وثأرًا، يرضع من حليب العزة وحب الشهادة .
الأطفال هناك يخرجون من تحت الأنقاض ينطقون الشهادة، يخرجونهم شبانًا في مقتبل العمر تاركين خلفهم كل أحلامهم وآمالهم وأعمالهم .
في غزة فقط، ستجد هناك فساتين الزفاف يكتسحها اللون الأسود، وبطاقات الزفاف تترأسها عبارات النعي والفقد، هناك يُدفن الحب مع أجسادهم يرافقه شتى عبارات الحب الممزوجة بدموع الوداع والحضن الأخير .
المدارس حيث المأوى كانت قد قُصفت، احترقت الكتب، تمزقت الأجندة، تلطخت دفاترهم بدمائهم، تحولت الجامعات إلى حجارة علم محترقة وباكية، تحمل كل تلك الذكريات المتكدسة منذ سنين .
المستشفيات أصبح الناس يفترشون الأرض تعبًا ونومًا، تلاحموا مع ظلال الأشجار راحة، لكن أجسادهم تطايرت في لحظة غدر، غدرت بهم قنابل الموت .
حتى طرقات الشوارع قُصفت، غطتها أجساد الشهداء المتفرقة .
في غزة، بكى الطفل والشباب والأم والعجوز حتى الطبيب والمسعف، في غزة قُتلت الطفولة والأحلام وبراءة الأمنيات وحتى الدواب .
في غزة بكى الحجر فراق أهل البيت .
في غزة يغادر الجميع دفعة واحدة، حيث تعيش العائلة في منزل وقبر واحد .
أما نحن هنا، فإننا والله لم نعتد المشهد، وذات الإحساس في كل مرةٍ بل ويزداد حُرقة وألمًا، نُهشت قلوبنا وتحطمت أوجاعنا أمام أوجاعهم، بتنا الراضيين عن أقدارنا رغم تثاقلها قبل عدة أيام من الآن .
لكننا تعبنا ونحن تحت أسقف بيتنا ننام على وسادةٍ من راحةٍ تشوبها الكثير الكثير من الدموع ورائحة العجز ..
ما زلنا نتمسك بالدعاء حتى آخر رمق فينا، إن لم يكتب لنا يومًا الجهاد بأرواحنا وأجسادنا .
أما عني فإني الآن جل ما أشعر به هو العجز والغضب والتعب والرغبة في البكاء الشديد، النيران تُطفىء هناك عنوةً وهنا -حيث قلبي- لم تخمد بعد .
صرخت وتألمت وبكيت ولكنني في نهاية المطاف كنت قد غفوت، غفوت لأراهم يطوفون فوق الركام مبتسمين، أرواحهم تحوم في مخيلتي لا تفارقني، أقدامهم المبتورة وأياديهم المحترقة كانت تشع نورًا، وددت إمساك أحدهم أو حتى احتضان تلك الطفلة التي كانت تنظر لي بابتسامةٍ بريئة، لكنني استيقظت لأجد وسادتي ممتلئة بدموعٍ صامتة ..
يا الله إننا وهم نناجيك، يا الله ...
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة