ظواهر النزع الخبيث في عرض الدين والحديث.. تصويب وتصحيح؟
يكاد المرء يصل به الأمر إلى حد الذهول المطلق، وهو يرى ما يراه ويسمع ما يسمعه من برامج تُعرَض على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظمها يكون مقتطعًا من أجزاء مختلفة من برامج كاملة قد تكون حوارًا أو محاضرة. وسبب الذهول ذلك أنّها تستعمل الدين وتحديدًا الإسلام منه وسيلة وغرضًا في ما تعرضه. ويدور معظم هذه الحوارات والمحاضرات أو حتّى المقابلات القصيرة على الخوض في الذات الإلهيَّة عدمًا أو وجودًا. فيظهر السفهاء من صنوف المجتمع المختلف في كلّ مجالات العمل المسمَّى ثقافة (مستنيرة متحرِّرة) أو العاملين والعاملات في الحقل المسمَّى (الفنّ الراقي). ويتكلَّمون جهارًا نهارًا. فإذا كانوا مقدّمين لبرامجهم تلك، كان أوّل ما يسألون ضيوفهم إياه: "من هو الله بالنسبه لكَ أو لكِ؟". هكذا بكلِّ وقاحة وجرأة. وتتواصل الأسئلة لتجعل من يشاهد مثل هذه المقابلات في شكٍّ من دينه وعقيدته لاسيَّما إذا كان على درجة من التواضع في فهم الإسلام ومعرفة خصائصه. ويظهر من يكن بعيدًا كلَّ البعد عن الإسلام لجهة العلم الشرعي الملتزم لاسيَّما في معرفة الأصول والقواعد العلميَّة الواجب الأخذ بها في الأحكام والقضايا الدينيَّة الحيويَّة، ويقول أمام الناس وعلى الملأ: "لا عذاب في القبر... ولا صحة لفرضيَّة الحجاب... ولا كذا ولا كذا..." من الفتاوى المختلفة التي تلامس جوهر الدين. ويبدأ بالحجج والأسانيد التي تأخذ من كلِّ وادٍ عصًا. ويدخل ما هو معتلّ ليخلطه بما هو صحيح، ويعرضه على العوام فتكن نتيجته جسم مشوَّه لا تعرف له رأسًا من قدم. وتجد من يجمع عالمًا وأحد المسمَّى صاحب قلم علمانيٍّ في برنامج، ويبدأ الجدل والنقاش الصاخب غير المسموع معظمه، والذي يدور حول القضايا الخلافيَّة بين المسلمين في تاريخهم وخاصَّة ما يتعلَّق منها بالخلافة وأحقيَّة أبي بكر أو عليّ رضي الله عنهما بها، وهو ما يشبه نبش القبور بعد أن مضى على رحيل أصحابها ألف عام أو يزيد، فلا ينفع ترميم الجثث ولا تحنيط ما بقي فيها من الرمم مع ما هي عليه من منزلة وقدر عند الله. ولكن لا ينفع صريخ الأحياء في عالم القبور.
وممّن يمكننا أن نستشهد به في مقام حديثنا هنا، ما تمّ عرضه لسيِّدة محجَّبة في مقابلة مصوَّرة، لم تضع الحجاب حبًّا به، ولا التزامًا شرعيًّا فيه، وإنّما خوفًا من القتل لما تعرضه للملأ من أفكار شيطانيَّة تخالف جوهر الدين وروحه، ومن جملة ما قالته من حديثها الجامع للمتناقضات أنّها تعترف بوجود الله ولكنّه بالنسبة لها خلق الخلق وتركهم لشأنهم، فلا يتدخَّل فيما يجري لهم في حياتهم قولًا ولا عملًا. وأمّا بالنسبة لمحمّد عليه الصلاة والسلام فهو بالنسبة لها عبقري، وهو من ألّف القرآن، وكان يمكن لمقدِّمة البرنامج أن توقعها بشرِّ أقوالها بالعقل والمنطق الذي تحتجُّ به تلك الموتورة، فلا العقل ولا من به ذرَّة من عقل يصدِّق أنّ القرآن كلام بشر إذا ما أخضعناه التقييم العقلي فقط. لأنّ الذي يبقى أربعين سنة في قومه لا يقرأ ولا يكتب ثمّ بعد ذلك يأتيه الوحي العقليّ من لدنه لا من وحي السماء الذي تنكره هذه المتمرِّدة، فيقول ما قاله القرآن من أمر ونهي ووعد وأحكام وتشريعات وأخبار دقيقة عن الأمم السابقات التي ترقى إلى الغيبيّات، سوف يجد من المستحيلات تصديق تلك التُرَّهات من أقاويل المنكرين والمنكرات.
إنّ الواقع الذي بين أيدينا ممّا يمكن تسميته بظواهر النزع الخبيث في أخلاق المجتمع الحديث، لا بدّ من تحديد أفق للتعامل معه على أسس متينة بعيدة عن ردَّة الفعل. وإنّما بالشروع في بناء منهجيَّة لعرض الإسلام بصورته البعيدة، تخرّصات المتخرِّصين الذين يتقصَّدون عرض الصورة ناقصة ومبتورة حتّى لا يمكن للمسلم بفطرته السويَّة أن يأخذ أحكام دينه بيسر وسهولة، وإنّما بكلِّ ما يمكن من التشديد والتعقيد. وتجد فريقًا ممّن يُراد لهم أن يخاطبوا عوام المسلمين بما لا تدركه عقولهم من الأمور الدينيَّة الغيبيَّة، كالخوض في الأسماء والصفات والعرش والكرسي. وكأنّ كلَّ الأمة بخير، وتملك زمام البلاد والعباد، ولم يتبقَّى إلّا الصعود إلى السماء والبحث في حقيقة الاستواء، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه لتتجدَّد في حياة الأمّة من ظهور الفِرَق والمِلَل والنِحَل التي تركت كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلم، وخاضت في كلّ ما هو متشابه معناه ومشكِل فحواه. إنّ الذي يسلك مسلك هؤلاء القوم قصدًا أو عفوًا إنّما هو مُعين للمضلّين في ضلالهم. فإنّه عندما يكن البيت محتلًّا لا ينفع أن يتحدَّث فيه أهله عن تقسيم الغرف بينهم، وبالتالي لا سلطة لهم عليه. ونحن في موقع لا نُحسد عليه، وقد اجتمع علينا الأعداء لهدم الدين من داخله، وبلسان وأيدي كثير من أهله. وكما قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقع السيف المهنَّد
إنّ الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية ـ كما يُقال ـ ولكنّ الأمور تعدّت ذلك للتحوُّل إلى صميم الدين وجوهره بكل وسائل التشكيك والتحريض والتجديف، تحت مزاعم الإصلاح والتجديد والتحديث. وعندما قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ]التوبة32 [، جاء جمال الآية مجتمعًا مع إعجاز معناها، حيث جاءت بصيغتها تفيد الحاضر والمستقبل، لتدلَّ على أنّ كيد أعداء الله لدينه الحق لا حدود له، وأنّ المطلوب منهم إطفاء نور الله بأفواههم. ومن لا يرى كَمْ مِنَ الأفواه الجائعة الجامحة ترغي وتزبد وتعلو وتهبط للنيل من الدين وأهله. ونقول أخيرًا ماذا يمكن فعله في مواجهة كلّ هذه الموجات اللاطمات في بحور عاتيات؟ إنّ الذي يمكن فعله هو التمسُّك بالكتاب والسُنَّة من دون الخوض بالمواضيع والنقاشات التي تتناول تاريخ من الاختلافات. بل يجب إخضاع كلّ ذلك لقواعد أدب الاختلاف، وعدم السماح للرويبضات أن تعلو أصواتها على أهل الدين والعلم الشرعيّ بفتوى شاذّة يصطادها أصحابها بالماء العكر بالتلويث والتزييف. جمعنا الله على ما يحبّه ويرضاه والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة