د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
غاية وجوده وحياته
من المعرفات الكبرى بالإنسان في القرآن الإجابة على سؤال لماذا وجد الإنسان؟؟ أي السؤال عن غاية الوجود الإنساني في هذه الحياة، أي الغاية من الحياة نفسها بما هو هذا العمر الذي يتمتّع به الإنسان.
وإذًا، فالحديث في هذه القضيّة هو في حقيقته حديث عن فلسفة الحياة الإنسانيّة في القرآن وتصوّره لها، وهي الغاية الكبرى من الوجود كلّه، المقرّر في قوله تعالى الجامع: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]. إنها 'العبودية' لله سبحانه وتعالى التي "تشمل كلّ شيء وكلّ حي، فلا يخرج عن العبودية لله - سبحانه- شيء ولا حي في هذا الوجود. إنّما يتجرّد كلّ حيّ وكلّ شيء من خصائص الألوهيّة، ويقف الكلّ من الألوهيّة الواحدة المتفردة موقف العبيد" [قطب، خصائص التصور الاسلامي ومقوماته، ص١٢٧]، والله تعالى يقول:﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم:93]، ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ* يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل:49-50].
فهي عبوديّة شاملة لا ينفذ منها حي، كيفما كان نوعه وشكله ووضعه وموقفه وموقعه، أمام ألوهيّة متفرّدة للمولى عزّ وجلّ،"وهذه العبوديّة الشاملة يتعلّق وجودها ابتداءً، ويتعلّق تدبيرها وكفالتها، بالألوهيّة المتفرّدة. والعلاقة بين الألوهيّة المتفرّدة والعبوديّة الشاملة هي علاقة الخلق والملك والرزق والهيمنة والقوامة.. القوامة بكلّ معانيها ووظائفها ومقتضياتها" [قطب، خصائص التصور الاسلامي ومقوماته، ص١٣٠].
وفي كتاب الله البيان الكاشف لهذا المعنى؛ حينما يقول سبحانه مثلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾ [فاطر:41]، ﴿وَما مِن دابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلّا عَلَى اللَّهِ رِزقُها وَيَعلَمُ مُستَقَرَّها وَمُستَودَعَها كُلٌّ في كِتابٍ مُبينٍ﴾ [هود:6]،﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ النحل:52.
إنّ العبوديّة لله تعالى هي فلسفة الإسلام للحياة والأحياء، على قاعدة أن الوجود ثنائيّة طرفاها الله تعالى والكون إنسانًا وطبيعةً، أي ألوهيّة بخصائصها، وعبوديّة بخصائصها، والألوهيّة هي مقام الخالق سبحانه وتعالى، الذي إليه يرجع كلّ شيء وكلّ حيّ، بينما العبوديّة هي الإطار الجامع الذي يتأطّر به كلّ موجود في هذا الكون وهذه الحياة، الذي يعبّر عن مقامه ويعكس قدره الحقيقي.
وتتنوّع أنماط العبادة لله تعالى بتنوّع أنماط الموجودات، فكلّ يعبد الله على طريقته ووفق طبيعته التي جُبل عليها؛ يمكن حصرها في مجالين من العبادة من المخلوقات إلى الخالق سبحانه وتعالى، وذلك حسب البنية الخلقيّة للموجودات؛ فهناك العبادة بالتسخير، وهناك العبادة بالاختيار(الإنسان)، الأولى مسخرة للثانية وخادمة تعينها على التحقّق.
- فالأولى: فخلقان يعبدان الله بالتسخير، لا حريّة فيها ولا اختيار، وهما:
١- الملائكة: الذين ﴿لاَيَعْصُونَ اللّٰهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:٦]، ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحمنُ وَلَدًا سُبحانَهُ بَل عِبادٌ مُكرَمونَ * لا يَسبِقونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلونَ﴾ [الانبياء:٢٦-27]، وقد سخّروا لخدمة الإنسان ومعاونته على أداء رسالته الخيّرة في الحياة، [يراجع مهنا، الانسان في القرآن الكريم، ص٥١]، وكذا لحفظه لقوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾ [الرعد:11]، وقد ورد ابن كثير عن ابن عباس أنّ المعقبات من أمر الله هي الملائكة، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. فهذه صور من عبوديّتهم الخاصّة المنسجمة مع طبيعتهم النورانيّة وخصائصهم المتمثّلة في طاعة الله وفعلهم ما يؤمرون، وقدرتهم على النهوض بذلك فقط، دون القدرة على العصيان ولا الخروج من هذه الطبيعة إلى غيرها. ولهذا لمّا أعلن الله تعالى عن جعل آدم خليفة في الأرض، تعجّبت الملائكة متسائلةً، فقال لهم تعالى:﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:30]، وكأنّه سبحانه كما رأى د.العلواني: "أراد أن ينبّه الملائكة، بأنّهم لم يكونوا يعلمون أنّ الهدف من هذا الاستخلاف، ليس العبادة المجرّدة المشابهة لعبادتهم وتسبيحهم وتحميدهم، الذي يأتي عن فطرةٍ فطروا عليها، وطبيعة هُيِّئوا بمقتضاها لذلك، بل المقصود خلافةً وابتلاءً وتدافعًا يمحّص الله الناس فيها، ليتبيّن الأحسن عملًا من هذا الخلق والأصلح لوراثة الأرض في الدنيا ووراثة الجنّة في الآخرة :﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالحون﴾ [الأنبياء:105]. فهذا الاصطفاء مرتبط بعبادة لها مفهوم آخر، يتعدّى التسبيحَ والتحميدَ والركوعَ وغيرها من الأفعال التي تقوم بها الملائكة عبادةً محضةً وتقديسًا خالصًا إلى فعل العمران، والقيام بحقّ الأمانة وأداء مهمّة الاستخلاف، لتحقيق الوفاء بالعهد"[النبوة ومفاهيم القرآن، طه العلواني].
تختلف خصائص الملائكة عن خصائص الإنسان، فعندما أطلعهم الله تعالى على سرّ تكريمه الإنسان بجعله خليفة في الأرض، وتساؤلهم عن سرّ ذلك، ذكر لهم أنّه يتعلّق بقدرته على الرمز بالأسماء للمسمّيات كما سبق، وتلك القدرة لا حاجة للملائكة بها؛ "لأنّها لا ضرورة لها في وظيفتهم. ومن ثمّ لم توهب لهم. فلمّا علّم الله آدم هذا السرّ، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء. لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظيّة للأشياء والشخوص.. وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم، والاعتراف بعجزهم، والإقرار بحدود علمهم" [قطب، في ظلال القرآن، ص٥٧].
٢- الكون المادي: الذي سخّره تعالى للإنسان، وتلك عبادته التي لا يملك غيرها، ولا التنكّب عنها، وهي تتلاءم مع حالة الإباء لتحمل الأمانة والإشفاق منها في قوله تعالى:﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72- 73. فطبيعة المجال الكوني الطوع والهداية المبنيّة على التقدير، وقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت:11]، وقال:﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى:1-٣]، وقال سبحانه:﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه:50]. [يراجع عبادي، النبوة والإنسان، مجلة حراء، العدد 22، ص٤٢-٤٣].
يُتبع ..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن