أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
إنّ أوّل شيء علّمه الله -تبارك وتعالى- لآدم الأسماء، وما ذلك إلّا لأهميّة الاسم وعظيم أثره في بيان الأمور وتمييز حقائقها، وضبط أوصافها، لأنّ تغيير أسماء الأشياء من أبواب الفتن العظيمة، ولا أَدَلّ على ذلك ممّا فعله المشركون عندما غيّروا وحرّفوا أسماء الله، وسمّوا بها أصنامهم وأوثانهم، تلبيسًا منهم على أنفسهم وعلى الناس، لأنّ تسمية هذه الأشياء بحقيقتها تفضح عقولهم وتحرجهم أمام أنفسهم والناس، لأنّها تذكّرهم بعجزها وأنّها حجارة أو خشب لا تضرّ ولا تنفع، لذلك سمَّوْا بعض هذه الحجارة اللّات اشتقاقًا من لفظ الجلالة الله، وسمَّوْا بعضها العُزّى اشتقاقًا من اسم الله العزيز، وروَّجوا لها على أنّها آلهة، فظنّ الناس أنّها آلهة وأنّها شريكة لله في تدبير ملكه، وافتُتِنوا بها حتى وصل الأمر إلى عبادتها من دون الله.
أمّا إذا أردنا ربط ما ذكرنا من بدع الجاهلية الأولى بجاهليّة هذا الزمن، فقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمّا سيكون حاله آخر الزمن من تغيير الأسماء لبعض المحرّمات. وهو ممّا يعني تغيير وجهة النظر عند الناس في عدد من المفاهيم التي تحكم حياتهم وطرق تعاملهم. ومن ذلك ما جاء خبره في محرَّم واحد يندرج معه الكثير من المحرمات: "لَيَشرَبنَّ ناسٌ مِن أمَّتيَ الخمرَ يُسمُّونها بغيرِ اسمِها".. والذي قيل يطابق ما تنبَّأ به صلّى الله عليه وسلم، فقد اصطلح مروّجو هذا الإثم العظيم على تسميته بـ"المشروبات الروحيّة". وهل الروح تحيا به أم تموت قبل الجسد لأصحابها؟. وتندرج مع الخمرة ما أطلقه الناس في غالبهم على الربا المحرّم بأنّه "فوائد"، تغييرًا وتزويرًا. مع أنّه في هذا التغيير للأسماء لا يتغيّر الحكم، لأنّه مستمدّ من معناه الموضوع له أصلًا ممّا أنزل الله لفظه وأسرد معناه فلن يغيّر الأشخاص ما حكم به ربّ السماء.
فإذًا هناك أسماء الأشياء التي لها دلالة معيّنة ينبغي الوقوف عندها وعدم تعدّيها. وهو لا يعني بالضرورة فقط أن يكون ما علّمه الله لآدم وذرّيّته من بعده مقتصرًا على مسمّيات الأشياء الجامدة كالجبال والأنهار والبحار، بل إنّ ذلك يشمل المفاهيم التي يرتكز عليها وقفيّة الأسماء وعدم خلطها ببعضها الآخر. ولنا في ذلك أمثلة، فأنت تقول "عبد الله" بناء على معرفتك المسبقة أنّ المطلق عليه صفة العبوديّة، هو في مقام ذلك أطلق عليه الوصف واستحقّه. ولو أنّنا قلبنا المسمّى إلى غير مستحقّه، لظهر أثر ذلك المعتقد المغلوط في أحوال من فعلوه ولكان أثره فسادًا في السماوات والأرض، لأنّه قد حكمه طابع الهوى عند أتباعه، قال تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾] المؤمنون[71. وهذا يشمل كلّ مصادر اتّباع الهوى والبعد عن الحقّ في تحديد المحتوى. والذي ذكرناه آنفًا هو واحدة وعيّنة منها. ولقد فسدت عقائد كلّ من خالف الحقّ وتبع هواه في معتقده وكان دافعه الكبر والغرور، كما فعل إبليس عليه اللعنة عندما منعه السجود لأمر الله في خلق آدم فقال: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾] ص[76. فكان أوّل من قاس وأوّل من فسد في قياسه. ولمّا وجد فرعون أنّ قومه قد خضعوا له رقابهم، وذلّت له أعناقهم قال لهم قولًا قلب فيه مفهوم الفرق بين العابد والمعبود: ﴿أَنَا رَبُّكُم الأَعْلَى﴾. وبذلك أسّس لمفهوم فرعوني سار عليه الكثير من ملوك الأرض وحكّامهم من بعده، وهم لم يقولوا ما قاله بصريح اللفظ بادّعاء الربوبيّة. بل أنّهم جعلوا كلّ ما يفعلوه على الأرض دالّ عليه ومستمدّ منه.
ولو انتقلنا إلى مسمّيات أخرى فيما يتعلّق بالاقتصاد والمعاملات التجاريّة، فإنّ الله سبحانه قد وضع مفاهيم واضحة المعالم في التمييز بين صنفين من أصناف التعامل التجاري في البيع والشراء. وذلك في النفي والإثبات، فقال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾] البقرة[ 275. فإذا قد ترتّب على قلب المفهوم بين البيع بالتجارة الحلال استبدال البيع بالربا المحرّم الكثير من المفاسد الاقتصاديّة والأخلاقيّة التي تركت أثرها الاجتماعي على الأفراد والجماعات والدول والشعوب.
والأخطر في ذلك التبدّل في المفاهيم هو خروج مصطلحات متداولة على الألسن أصبح لها معاجم خاصّة بها وربّما سبقت في مفرداتها كتاب (لسان العرب)، تعتبر الجهاد مهلكة. وتغيير واقع الناس في جهل عدوّهم الحقيقي المحتلّ الأرض والمغتصب العرض معتبرًا عندهم مجلبة للشر ومفسدة. والذي يعتاد المساجد ويطبّق سُنَّة نبيّه المصطفى درويشًا بسيطًا إن لم يقولوا عنه إرهابيًّا ينتظر الناس منه إشعال معركة. والفنّ الوضيع المنتشر والذي يصرف عليه دعاة الخنا والهوى أموالًا طائلة وتعرض فيه الأجسام المثيرة للشهوات والغرائز البهيميّة بكلّ جراءة ووقاحة. والذي يصل إلى حدّ أن يناقش أصحاب هذا العمل الرخيص الوضيع في الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز، وهم قد سبقوا الشيطان وأصبحوا يدعون نيابة عنه، فمن يخالف أو يعارض فهو معاد للتقدّم والعصرنة ومواكبة الزمان. وبذلك تكون المفاهيم الأصيلة صارت لها مفاهيم بديلة، وصارت الفضيلة رذيلة، وصار الناس يعرفون بعضهم البعض بما يخالفون به دينهم وقيمهم وما يتسابقون فيه على المعاصي وكثرة الذنوب.
ومن المسمّيات التي أطلقت وشاعت وصارت عرفًا متّبعًا عند من يسمّون اتّباع "الحداثة والعصرنة" ما يُسمّى بـ"المساكنة" وهو تجميل للزنا المقنّع حيث يختار رجل وامرأة العيش تحت سقف واحد بلا عقد شرعي، وهو مخالف لمقاصد الزواج المشروع في الدين والأعراف السليمة. وقد جمع الله تعالى ذلك المطلوب ذكره في الزواج في آية واحدة في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾] الروم[21. وفرق كبير بين السكن الذي يتحقّق في الزواج الدائم المستقر وبين "المساكنة" التي تحمل في حروفها معاني الإكراه اتّباعًا لنزوات النفس الأمّارة ورغباتها الرخيصة. فمن يتجاوز الفرق في اللفظين "السكن والمساكنة" ويأخذ بالثانية على أنّها أمر مشروع ومرغوب، فقد أفقد لفظ السكن من حقيقة مسمّاه وألبسه ثوبًا سواه. ونقول هنا بما تقدّم ذكره والحديث عنه أنّ الإسلام دين الحقّ ليس دينًا رجعيًّا متخلّفًا يحارب التقدّم والحضارة، كما يدّعي أعداءه في الداخل والخارج، بل هو دين يحفظ قِيَم ومفاهيم الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فقد جرّب أصحاب المفاهيم المتحرّرة في الغرب الذي نفض أهله سلطة الكنيسة ورجال الدين عنهم، جرّبوا كلّ ما هو مخالف للفطرة والطبيعة الإنسانيّة السويّة، من شذوذ وانحراف. ونتج عنه مجتمع خالي الوفاض من كلّ قِيَم له ظاهر بارق لمّاع، ويحمل في باطنه نذير الخراب والهلاك. وجرّب آخرون مفاهيم بديلة في الاقتصاد، وأقاموا نظامًا سمّوه "اشتراكيًّا" بقصد العدل الاجتماعي، ونتج عنه بديل طبقي يحكم باسمهم ولا يقلّ استغلالًا لهم ممّن أقام ثورته ضدّهم.
ويبقى أن نقول أنّ مفاهيم وضعها من خلق العباد واستخلفهم في الأرض هي الأولى بالاتّباع، وعدم الأخذ بها أو تحريفها عن معناها ومرادها يترك أثره المدمّر في البلاد والعباد. والله من وراء القصد، والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!