كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
كثُرَتْ في الآونة الأخيرة من السنوات في الألفيّة الثانية من هذا القرن، وفي عزّ ما يُسمّى بثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي، الترويج عبر تلك المواقع للأشخاص الذين نصَّبوا أنفسهم أدعياء لكثير من العلوم المتعلِّقة بالمستقبل والغيبيّات سواء للأفراد أو للدول وأحوال ما سيطرأ عليهما من أمور ليست من الحاضر المشهود، وإنّما من الغيب المولود. ولمّا كان للإسلام موقفه الشرعي الراسخ عماده من هذه الأمور، كان لا بدّ من وضع هذا الموقف في الميزان بينه وبين أدعياء هذا الافتراء والبهتان فيما لا يعلم سرَّه إلّا العزيزُ العلّام.
إنّ الإسلام بمراجعه الكبرى ـ الكتاب والسُنَّة ـ قد أبان حُكْم النظر في ما وراء المشهود. عبر أيّة وسيلة يبتدعها الشيطان لأعوانه من قراءة الكفّ أو الفنجان أو الاستعانة بالجن والشياطين وعلم ما يُسمّى بالرمل أو علم الفلك والأبراج، وكلّها تجتمع على غاية واحدة هي كشف المجهول للناس، وإخبارهم بما ينتظرهم من سفر أو رزق أو فرح في الأهل والمال والولد. أو ما يخالف ذلك من مصاعب ومتاعب وأمراض وأعراض. وقد أخبر الله تعالى بصريح البيان أنّه هو سبحانه من يعلم الغيب، ومن أسمائه الحسنى علّام الغيوب. قال تعالى:﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا﴾] الجن[26. وكان هناك تدارك لمن أعطاهم سبحانه وتعالى بعضًا من الغيبيّات التي هي جزء من مهمّات الرسل في دعوتهم لله، وليس تخصيصًا لهم من دون الناس، فقال تعالى تتِمَّة للآية:﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾] الجن[27. وممّا يُعزِّز قولنا أكثر قوله تعالى مُعلِّمًا نبيّه قوله: ﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾]الأعراف[188، فكأنّه يريد القول لنا هنا: لو أنّ النبي المُوْحى إليه بوحي السماء لو كان يعلم الغيب لما ترك بابًا من الخير إلّا سلكه ولا من سوء قبل وقوعه إلّا وقد استدركه.
فهل مَن تنتظره ثروة ويعلم بها قبل غيره إلّا وقد قطع الأميال والجبال ليأخذها دون سواه. وهل مَن علم بمصيبة أو قارعة سوف تحلّ به إلّا وقد سابق الزمان ليحول بينها وبينه. وهذا من البديهيّات، وهو ما يعني أنّ الغيْب كلّه لله.
وإذا كان في الأمر تعريف وتفصيل فيمكن تقسيم الغيب إلى قسمين: الأوّل غيْبٌ مُطْلَق، والثاني غيْبٌ مُقَيَّد. فأمّا الأوّل فمنه ما هو خاصّ بالذات الإلهيّة، وهو محجوب عن كلّ البشر والخواص منهم، كذلك من أنبياء وأولياء وأصفياء، والإيمان باليوم الآخر هو من الغيبيّات المُطْلَقة. ويأتي الإيمان بالغيب المُقيَّد في أمر الملائكة والرسل والكتب السماويّة، فهذه كلّها غيْبٌ على بشر دون بشر، ولكنّها تدخل في عموم الغيبيّات. ولقد أخبر الله في ذلك الأمر ما هو يُفَرِّق فيه في الغيب وحدوده الواجب الوقوف عليها، فقال سبحانه في آية مُجْملة: ﴿۞ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾] سورة الأنعام[ 59، وفي آية مُفَصَّلة قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ]لقمان [34. وهذه الآية الكريمة هي لُبُّ الكلام الذي نريد قوله من حديثنا كلّه فهي قد جمعت كلّ أنواع الغيب مجتمعًا ومتفرِّقًا.
فأمّا الساعة وهي يوم القيامة فليس أحد يعلم اليوم الذي تقوم فيه سوى أنّه يوم الجمعة، وحديث جبريل يُؤكِّد ذلك: "..فقال : أخبرني عن الساعةِ متى الساعةُ؟ قال: ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ". وأمّا نزول المطر فإنّه ليس أحد يجرؤ من مراكز الأبحاث ومعرفة أحوال الطقس في العالم كلّه على القول بحتميّة المطر في مكان دون مكان آخر، بل كلّه خاضع للتوقّعات ليس أكثر.
وأمّا معرفة ما في الأرحام فهو ليس مقتصرًا على معرفة جنسه ذكر أو أنثى، بل للآمر تفاصيل غيبيّة يحملها الجنين معه بعد أن يُنْفَخَ فيه الروح والحديث واضح في ذلك: "إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم يُنفخُ فيه الروحَ، فإنَّ الرجلَ منكم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى لا يكونَ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ، فيدخلُ النارَ. وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، فيدخلُ الجنةَ" حديث صحيح. فالأمر أوسع من مجرَّد تحديد جنسه فهناك تفاصيل لا يعلمها أحد إلّا الله، وأمّا ما تدريه النفس الضعيفة لما ستكسبه غدًا من خير أو شر فهو محجوب عنها، ومن ذلك المحجوب المكسوب أنّ العبد أعجز من أن يعرف مكان منِيَّته، فضلًا عن أن يعرف الكيفيّة لساعة المنيّة. وممّا يُرْوى في ذلك أنّ رجلًا شاهد في منامه وكأنّه كان في يقظته مشغولًا بساعة أجله فأتاه آتٍ في منامه ولعلّه رجل صالح عارف بالله، وأشار إلى الرجل بأصابع يديه الخمس. فقام هذا الرجل مذعورًا، وهو لا يدري مُراد ما رآه في منامه وما قصده من الخمس تلك. ولمّا سأل مُفسِّر الأحلام الشهير الإمام ابن سيرين في ذلك، أخبره أنّ ما يريد الرجل قوله له أنّ خمسًا لا يعلمُهنَّ إلّا الله وهم المذكورين في الآية نصّ حديثنا.
يُتبَع..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
ضَوْءٌ لَمَعَ وَسَطَ المَدِينَة
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء العاشر
هكذا هو!
ماذا يعني انتصار ثورة أهل الشام؟!