د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء العاشر
- أمّا الثانية: فتخصّ الإنسان، هذا المخلوق المتميّز، الذي وُجد على هذه الأرض ليقضيَ حياته في عبادة خاصّة به؛ ترتكز على ما تفرَّد به من حريّة الاختيار والإرادة كما يشير قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس:8]، انسجامًا مع طبيعته التي رُكِّب بها، وتحمُّله للأمانة، وتكليفه بالخلافة في الأرض. وكلّ ذلك ينبني على السعي والكدح والمكابدة، والله تعالى يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ البلد:4، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾ الانشقاق:6]" [يراجع أحمد عبادي، النبوة والإنسان، مجلة حراء،ع٢٢، ص٤٢-٤٣]. أي أنّ قدر الإنسان لكي يُحقِّق سجوده وعبادته أنْ يكدح ويكابد ويبذل الجهد والوسع، ويقتحم كلّ العقبات التي تمنعه وتعوقه، والله تعالى يقول: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ* فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ…﴾ [البلد:10-١٤] إلى آخر الآيات، بينما قدرُ المخلوقات الكونيّة أنّها معَرَّفَة الوجهة والحركة ساجدةٌ لله بشكل دائم وحتمي، آخذة لموقعها الثابت منذ لحظة خلقها دون اختيار.[يراجع عبادي، أحمد، الوحي والإنسان، ص ص ٨٧-٨٨، ٩١-٩٢].
وهذا الفرق بين المجالين الكوني والإنساني يكشفه استعمال القرآن لعبارة 'السبل' في كلّ منهما؛ "فالسبل في المجال الكوني تسلك ذُللًا (أي بيسر)، وهو ما يتجلّى من خلال قوله تعالى في معرض الكلام عن طبيعة عمل الوحي في المجال الكوني: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كلي مِنْ كلّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾ [النحل:٦٨-69]. في حين أنّ السبل في المجال الإنساني تسلك مكابدةً وكدحًا، كما يتّضح من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]، ومن قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللّٰهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّٰهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة:١٥-١٦]" [عبادي، النبوة والإنسان، ص٤٣].
وهكذا، فإنّ العبودية لله تعالى هي فلسفة الوجود والحياة بما هي الخضوع الكامل له سبحانه والإنابة إليه بإظهار عظمته وكرمه وفضله والتسبيح بحمده اعترافًا في كلّ ذلك بكماله المطلق. وإذا كانت هذه المعاني متحقّقة في مطلق العبادة الصادرة عن كافّة المخلوقات الإلهيّة كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلـكِن لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُم﴾ [الاسراء:44]، فإنّها في صدورها عن الكائن العاقل الحرّ في إرادته من المعاني ما هو أكمل في تجلّي الكمال الإلهي: عظمةً وكرمًا وفضلًا؛ إذْ أنّ الكمال لما يشهد به العاقل المختار، يكون أكثر تجليًّا منه لما يشهد به المسير المجبور من سائر المخلوقات الأخرى، بل إنّ خلق هذه المخلوقات من السماوات والأرض شاهدةً بالكمال، لم يكن إلّا لأجل أنْ يشهد به الإنسان العاقل، فيبلغ الكمال بذلك ذروة التجلّي كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ وَكانَ عَرشُهُ عَلَى الماءِ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا﴾ [هود:7]؛ فالبِلْوُ إنّما هو اختبار الإنسان فيما يكون عليه من الشهادة عملًا صالحًا بالكمال الإلهي، ولمّا كان هذا البَلْوُ هو العلّة في خلق السماوات والأرض شاهدة بالكمال فإنّ موضوعه، وهو شهادة الإنسان بالكمال يكون هو العلّة الأصليّة في ذلك" [النجار، مبدأ الانسان، ص٦١-٦٢].
وبما أنّ سياق هذا الحديث هو غاية حياة الإنسان كمحور أساس من المنظومة التعريفيّة القرآنيّة بالإنسان، فلا بدّ من بيان أنّ المقصود بالحياة هذا العمر الذي يتمتّع به الإنسان، حيث يسعى ويكدح لتحصيل منافعه رعايةً لها وحفظًا لبقائها، نظرًا لما جُبِلَ عليه من التعلّق بها، "وإنّها لحكمة باهرة أنْ يطبع الله الإنسان على هذا التعلّق بالحياة. ذلك لأنّها أقدس رأس مال يملكه الإنسان على الإطلاق!. إذْ هي الوسيلة الزمنيّة التي لا ينهض إلّا عليها جميع الأسباب والشروط التي لا بدّ منها، لاستخدام الأرض وعمارتها، واستغلال ذخرها ومكنوناتها المختلفة، من أجل إنشاء المجتمع الإنساني السليم. فكانت الحكمة قاضية -نظرًا لأهمّيّتها هذه- بأن تنطبع الغريزة الإنسانيّة في أصل كينونتها على حبّ البقاء، والتعلّق بالحياة" [البوطي، منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، ص٦٤-٦٥].
ولقد تناول القرآن الكريم عمر الإنسان هذا باعتباره الأداة الأولى -بعد جوهره الذاتي- لتسخيرها من أجل أيّ عمل ما أُنِيط به من مهام الاستخلاف، بما تقتضيه من القيام بالواجبات والمسؤوليّات [يراجع البوطي، منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، ص٦٧]، وذلك تحقيقًا لعبوديّته لله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، التي لا تستقيم ولا تصلح حياته بدون فقهها واستيقانها وتطبيقها. فما معنى عبادة الإنسان لله؟
إنّ العبادة قبل كلّ شيء هي شعور تحرّري يعيشه الإنسان في ضميره ووجدانه، إنّها "الحركيّة الروحيّة الإنسانيّة التي يعيش فيها الإنسان الروح المتحرّرة من كلّ عبوديّة لمن حولها ومن حولها من خلال الشعور بأصالة الإنسان أمام كلّ الموجودات، واستقلاله عنها، فليس لشيء منها أيّة سلطة عليه، في أي شأن من شؤونه. لأنّ الله -وحده- هو سيد الكون الذي تقف كلّ الموجودات- بما فيها الإنسان- لتكون عبيدًا له، من موقع خلقه لهم، وتدبيره لشؤونهم، وحاجاتهم إليه في كلّ شيء، واستغنائه عنهم في كلّ شيء" [فضل الله، من وحي القرآن، 24/٤٣٤]
وتتحقّق بأمرين رئيسين، كما ذكر قطب:"الأوّل: هو استقرار معنى العبوديّة لله في النفس. أي استقرار الشعور على أنّ هناك عبدًا وربًّا. عبدًا يَعبُد، وربًّا يُعبَد. وأنّ ليس وراء ذلك شيء؛ وأنّ ليس هناك إلّا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلّا عابد ومعبود؛ وإلّا ربّ واحد والكلّ له عبيد. والثاني: هو التوجّه إلى الله بكلّ حركة في الضمير، وكلّ حركة في الجوارح، وكلّ حركة في الحياة التوجّه بها إلى الله خالصة، والتجرّد من كلّ شعور آخر؛ ومن كلّ معنى غير معنى التعبّد لله. بهذا وذاك يتحقّق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد، والرضى بقدر الله، كلّها عبادة، وكلّها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجنّ والإنس لها؛ وكلّها خضوع للناموس العام الذي يتمثّل في عبوديّة كلّ شيء لله دون سواه"[في ظلال القرآن، ص٣٣٨٧]
ثمّ إنّ خلق الإنسان من قطبين (قبضة الطين ونفخة الروح)، وعنده القابليّة للسير في الاتّجاهين المادي والروحي، لَيَدُلّ دلالة واضحة أنّ معنى العبادة كغاية لحياته، وغاية قيامه بوظيفة الخلافة أيضًا، لا بدّ أنْ يكون أوسع وأشمل من مجرّد إقامة الشعائر الدينيّة، التي تؤدّي دور تغذية الجانب الروحي لدى الإنسان، ليشمل ألوانًا أخرى من النشاط تتعلّق بمكوّنه الطينيّ. ولو اقتصر معناها على الشعائر الدينيّة، فلماذا يجعل الله تعالى الإنسان خليفةً في الأرض، بينما تتطلّب الحياة فيها ألوانًا متعدّدة من النشاط والعمل؟ ولماذا يخلق الإنسان على هيئة تجذبه إلى الأرض (الطين)؟ بل ما معنى أن يميّزه عن الملائكة ويفضّله عليهم؛ وهم المقتصرة وظيفتهم على الطاعة المطلقة والعبادة الخالية من مظاهر العمارة والحضارة وأمور المادّة؟..
وهكذا، فـإنّ 'العبادة' حكمة الإيجاد الإلهي للإنسان، قد فُصِّلت على مقاس الإنسان لتتّسق معه، وتتوافق مع تكوينه المزدوج، وتعبّر عنه بطريقة شاملة ومتكاملة. لقد جُعلتْ لتكون "توجّهًا مستمرًّا نحو الله بالخضوع والمذلّة بحيث يكون الله تعالى هو الهدف المبتغى في كلّ فكر وفي كلّ سلوك"[النجار، قيمة الانسان، ص٣٣].
إنّ هذا الإنسان كما يقول الغزالي "المكلّف بعبادة الله لا يعبده بشبحه المحدود، وجسمه المادي القاصر!، إنّما يعبده بتطويع طاقاته كلّها لله. إنّه يضع بصماته المؤمنة على الأرض حتّى إذا سجد، سجد معه زرعها وضرعها وحديدها وذهبها وكلّ ما ملك وارتفق!، وأرى أنّ ذا القرنين عندما ساوى بين الصدفين، وذوَّب الحديد والنحاس داخل سلسلة من القلاع -التي تحمي الضعاف وتذود الطغاة- أرى أنّه أحقّ الحقّ وأبطل الباطل لا بالكلام وحده، ولكن بجعل الأرض ومعالمها ومعادنها تؤدّي وظيفته وتحمل طابعه وكأنّها امتداد لنبض قلبه وبطش يده. وهل ملَّك الله الأرض الإنسان إلّا لهذا؟" [علل وأدوية، ص١٨].
فجملة القول إذًا أنّ حقيقة العبادة غاية الوجود الإنساني تتمثل في كلّ نشاط يتّجه به الإنسان إلى الله تعالى.. وألوان النشاط كثيرة غير محدودة ومتجدّدة ونامية بنموّ الحياة وتجدّدها، لكن تبقى حقيقة غاية العبادة ثابتة لا تتغيّر.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء العاشر
هكذا هو!
ماذا يعني انتصار ثورة أهل الشام؟!
تحرير العباد.. من التقليد في الأعياد!
رجلٌ من أقصى المدينة.. يسعى!