عرفةُ... اعرِف فيه قلبك

ما أسعدَ الإنسانَ بقلبه وما أشقاه به! يسعدُ حين يحيا قلبُه بالإيمان والرضا، ويشقى حين يموت بالغفلة والسُّخط.
وما أكثرَ الفرصَ التي تمرُّ به_ لو تأمَّلها_ ليولدَ من جديد!؛ ومن هذه الفرص يومٌ عظيمٌ من أيام الله، هو يوم عرفة، تتَّحدُ فيه القلوب على اختلاف مواطن أهلها، وتتعانق فيه الأرواح وإن حالت بينها مسافات.
ليس عرفةُ مكانًا فحسب، بل هو لحظةٌ كونية، يحتضن فيها الزمن الأرضيُّ نَبْضَ السماء، وتزول فيه الحواجز بين الدعاء والاستجابة، وبين الذنب والمغفرة، وبين القلب ومولاه.
يوم ذو بُعدين؛ بُعْدٌ مكانيّ لأولئك الذين شدّوا الرِّحال، ووقفوا بأجسادهم وأرواحهم على جبل الرحمة، وبُعْدٌ زمانيّ لكلِّ مَن عجز عن الوصول، لكنه توجّه بكل خضوع فيه إلى ربّه. لكلِّ مَن لم يستطعْ الوصول بسبب داء اعتراه، أو فقر أصابه، أو ظرفٍ حال دون وصوله إلى عرفة.
إنَّ المِنّةُ العظمى لهذا اليوم أنه بابٌ مفتوح لكلِّ مَن طَرَقَه بقلب منكسر، أو عين باكية، فالرحمنُ الكريم لا يوصد بابه في وجه المتلهِّفين.
فلا تدع اليأس يبطئك، ولا تُثقل كاهلَك الذنوبُ حتى تظنَّ أنها حالت بينك وبين السماء.
ألم يقل لك ربُّك، بعتاب رقيق، يكاد يذوب القلب عند سماعه خجَلًا: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾..
أجل، قد آن لك أنْ تعرفَ قلبك، أنْ تلتفت إلى هذا الكيان الغافل داخلك، الذي أهملته في زحام الأيام، وتركتَه يئِنُّ بحمل أثقال الحقد والخصومة.
اعرِف قلبك... فهو الأمانة التي اختارك الله لتحمُّلها، حرّره من القيود التي صنعها غضبُك وكبرياؤك، واغسله من الضغينة، وطهّره من الجدال غير المُجدي، والعداوات التي تسرق منك عُمرك دون أن تشعر.
واعلم أن من أعظم القُرُبات في هذا اليوم، أن تمنعَ ظالمًا عن ظلمه، حتى إنْ كان الظالم هو نفسك.
إنّه عرفة؛ مُتَّسع للحاج ولغيره، هو ريّ مسكوب يُبرد لظى الخيبات، ويطفئ نار الذكريات، جرى من ينبوع عذب: 'صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ' رواه مسلم.
قال ابن المبارك: جئت إلى سفيانَ الثوريِّ عشيةَ عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، فالتفتَ إليَّ وعيناه تذرِفان، فقلت له: مَن أسوأُ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
إنّه يوم المغفرة، يومٌ لا نظير له، فلا تدعْه يفوتك إلا وقد ارتويت منه بكلّك، وفتحت فيه صفحة جديدة في حياتك، وخُلقت بقلب جديد...
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
عرفةُ... اعرِف فيه قلبك
وليال عشر
الحج.. هذه العبادة الفريدة
وقفــات روحانيــة بين الحج والرحلة الأبدية
مراهق أم مُرهَق؟ فك شيفرة مرحلة صعبة