الاستغفار... دواء وأمان
المعاصي والذنوب من أخطر أمراض القلوب، شؤمها عظيم، وبلاؤها وخيم، وعاقبتها سيئة فما حلّت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في أمّةٍ إلا أذلّتها، ولا في قلوبٍ إلا أظلمتها. فكم من ذنبٍ طُمست به البصيرة؟ وكم من ذنبٍ حبس به الدعاء وقطع به الرجاء؟ فما من شرٍّ وبلاءٍ إلا بما كسبت أيدي العباد. قال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}..
فالذنوب حجاب بين العبد وربه، وقد أرشدَنا اللهُ سبحانه إلى أنه باب مفتوح لعباده المذنبين المستغفرين: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً}.
إنه الاستغفار: سبب الخيرات والبركات {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين َ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}.
إنّه الاستغفار: طريق النجاة وملاذ الإنسان حين تحيط به الخطيئات، إنه أمان المؤمنين الطائعين، وأمان المذنبين الخائفين المستغفرين. يقول عليّ رضي الله عنه: «كان لنا في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفع أحدهما وبقي الآخر فتمسّكوا به. أما الأمان الذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأما الأمان الباقي فهو الاستغفار، والله تعالى يقول: {وما كان اللهُ ليعذِّبهم وأنتَ فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
والمسلم مهما حاول أن يبتعد عن المعاصي والذنوب، فلا ينفك إلا أن يلمّ بإثم أو ذنب، أو خطأ أو زلة، فما من إنسان إلا وهو خطّاء، والمعاصي كما قيل سلسلة في عنق العاصي لا يفكّه منها إلا الاستغفار والتوبة.
وإن القلوب تصدأ كما الحديد وجلاؤها الاستغفار.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي غُفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، كان سيّد المستغفرين، يُكثر من الاستغفار في الليل والنهار، في الصلوات ووراء الصلوات، وفي سائر الأوقات، فقد روى مسلم عن الأغرِّ المُزَني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كلِّ يوم مائة مرة».
كما كان صلى الله عليه وسلّم يرغب في الإكثار من الاستغفار لشدّة حاجة العبد إليه في الآخرة. فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً».
وبيّن لنا صلى الله عليه وسلّم أن كثرة الاستغفار تفرّج الهموم وتخرج من الضيق، وتسهل الرزق. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَن لَزِم الاستغفار جعل الله له من كلِّ هَمٍّ فرَجاً ومن كلِّ ضيقٍ مَخْرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب».
فالذنوب داء والاستغفار دواؤها، فهذا الربيع بن خيثم يسأل أصحابه: أتدرون ما الداء والدواء والشفاء؟ قالوا: لا، قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب ثم لا تعود.
نعم إن حياة القلب بالذكر والاستغفار والتوبة والإنابة وترك الذنوب، والقلب إذا استنار بنور الطاعة أقبلت إليه وفود الخيرات، وإذا أظلم القلب بظلمة المعاصي والذنوب أقبلت إليه سحائب الشر والبلاء.
ويقول الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة. وقال عليّ رضي الله عنه: «عجبتُ لمن يقنَط ومعه الاستغفار».
وإنّ الاستغفار المطلوب هو ما قُرن به ترك الإصرار، فالاستغفار باللسان دون إقلاع عن الذنب إنما هو توبة الكذابين! فالاستغفار مع الإصرار تهاون؛ إذ ليس من الغريب أن يُذنب العبد، ولكن الغريب أن يتمادى في عصيانه وذنوبه، ويتغافل عن توبته واستغفاره قال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم، ذكروا اللهَ فاستغفروا لذنوبهم، ومَن يغفرُ الذنوبَ إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون}.
وقد قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار. يقول ابن سيرين: «والله لا أبكي على ذنب أذنبته، ولكني أبكي على ذنب كنت أحسبه هيِّناً وهو عند الله عظيم» فالذنب كلّما استعظمه العبد المسلم من نفسه صغر عند الله وكلما استصغره كبر عند الله تعالى. وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذُباب مَرّ على أنفه فطار».
أختي المسلمة: هيا بنا إلى ماء التوبة والاستغفار، نغسل الذنوب، ونطهر القلوب، ونرفع أيدينا لعلاّم الغيوب وستّار العيوب، وغَفّار الذنوب، فالذنوب أثقلت كواهلنا، وأوجعت قلوبنا. لنتضرع إليه ونذرف الدموع، فأنين المذنبين المستغفرين أَحَب إليه من وجل المسبِّحين المغرورين. وإن ذنوبنا مهما عَظُمت فإنّ عفو الله ومغفرته أعظم وأوسع. ينادي عباده إلى ساحة عفوه ومغفرته ورحمته وما أجمله من نداء: «يا ابن آدم إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة».
فما أكرمك وما أرحمك يا ربنا! نواجهك بالذنوب والمعاصي، وتقابلنا بالعفو والصفح والرحمة والمغفرة، فما أضعف نفوسنا وما أسوأ حالنا، وما أعظم جهلنا؟!
فلنستيقظْ من غفلتنا، ولننفضْ عن كواهلنا تراب زلاّتنا وذنوبنا. ولنقف في محراب التعبّد في ظلمة الليالي نستغفر ربنا من سوء الفعال ونقول:
{ربَّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمانِ أن آمنوا بربِّكم فآمنّا، ربّنا فاغفرْ لنا ذنوبنا وكَفِّرْعنا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار..}.
يا ربِّ إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأنّ عفَوك أعظمُ
ما لي إليكَ وسيلةٌ إلا الرجا
وجميلُ عفوِك ثم أنّي مسلمُ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة