حتى يتم الامتحان
بعض الصلاحيات الشرعية مثل قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ [النساء: 34] وأشباهها من الأحكام التي جعلها الله بيد طرف دون الآخر تثير الناس فيتساءلون: "إذا كان الضرب منهيًّا عنه إلا للضرورة القصوى، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذمَّ من يضرب زوجته قائلاً: ((وليس أولئك بخياركم))، وتعجَّب من أن يجلد الرجل امرأته ثم يجامعها آخر الليل، وثبت أنه عليه السلام ما ضرب امرأة قط، فلماذا إذًا أثبَتَ الله هذه الآية في كتابه؟ إذِ اتخذها بعضُ الرجال ذريعة لظلم الزوجات، والتطاول عليهنَّ بلا وجه حق، واستعان بها آخرون على قهر النساء وإهدار كرامتهن".
والجواب:
1- الله سبحانه جعل الدنيا دار اختبار، وإذا لم يكن في الدنيا قوي وضعيف، ورئيس ومرؤوس، وقوانين تَسْهُل مخالفتها، وأحكام يمكن التلاعب بها، لا يتم الاختبار؛ فكيف سيختبر الله ما فعل القوي بقوته، إن لم يكن هناك ضعفاء يعتدي عليهم، أو ينتصر لهم؟ وإن لم يضطهد القوي الضعيف ويظلمه، فكيف سيختبر الله صبر الأخير، وقوة جَلَدِه على البلاء، وهل دفع عن نفسه الأذى، كما أمره الله، وحاول الانتصار، أم خنع ورضي بالظلم؟ وكيف سيختبر ما فعل الراعي بالرعية، وكيف أدى الأمانة إن لم يكن هناك سيد ومَسُودُون؟ وكيف سيختبر طاعة الناس لأميرهم حين أمرهم بالسمع والطاعة، إن لم يكن لهم رئيس يأمرهم وينهاهم بما يحبون وما يكرهون؟ وكيف سيختبر الناس بالجهاد بقول الحق، إن لم يسلط عليهم سلطانًا جائرًا؟
إن طبيعة الحياة الدنيا تقتضي أن تكون قلةٌ في وضع قابلٍ لأنْ يَظلموا ويتجبروا، أو أن يعدلوا ويتَّقوا، وأن تكون الكثرة في وضع قابلٍ لأن يُظلموا ويُقهَروا أو يُنَعَّموا ويتمتعوا، إنها فتنة وبلاء، وبهذا التفاضل ومع هذا التفاوت تقوم حجة لله على الناس، وبها يتبيَّنُ المؤمنُ من الكافر، والمتقي من الفاسق، والعادل من الظالم، والصادق من الكاذب...، وكلما زاد التباين بين الناس في ميزان القوى، كانت نتيجة الاختبار أحجَّ وأوثق.
ولذا فإن الله جعل الناس مراتب ودرجات، ووضع لهم قوانين وأحكامًا لتنظيم معاشهم؛ ليتم الامتحان، وتكتمل عناصره وأدواته، و"السُّلْطة" و"القوانين" - وإن جُعلا لتنظيم المعاش- فإنهما أهم أسئلة الامتحان، فإن استعْمَلَهُما الناس بحقهما، وجعلوهما وسيلة للإصلاح، وأداة لتطبيق شرع الله فنعمَّا ما فعلوا، وأفلحوا وفازوا، وإن استثمروهما في القهر والعدوان، عاد الوبال عليهم، وباؤوا بغضب من الله.
2- والله سبحانه بيَّن لنا كيف نصلي، وكيف نَحُجُّ، وشرح لنا العبادات بمنتهى الدقة والوضوح، إلا أنه لم يشرح لنا المعاملات بالطريقة ذاتها (رغم أهميتها في حياتنا) لتعذُّر ذلك؛ فالتفصيلات اليومية الصغيرة كثيرة، وتختلف من علاقة زوجية لأخرى، منها كيف يكون الزوج مع زوجته من الصباح وحتى المساء؟ وكم مرة يخرج بها إلى النزهة؟ وإذا طلبَتْ منه حاجة كَمَالِيَّةً هل يجب عليه أن يُحْضِرها لها؟ وعلى الفور أم على التراخي؟ وإذا اختلفا وقالت الزوجة لزوجها كلامًا مؤذيًا، فبماذا يجيبها، وكيف يتصرف معها؟.
إن الحياة الزوجية تحتاج إلى مجلدات؛ لتُشْرَح فيها كل حالة، ويُفَصَّل فيها القول، ويُوضَع الحكم...، وهذا مستحيل، ولذلك ترك الله هذه التفصيلات الصغيرة، ووضع قواعد عامة للعلاقات الإنسانية، وجعلها عريضة؛ بحيث تنضوي تحتها كل الحالات والمشكلات؛ فأمَرَ بالعدل وحذَّر من الظلم، وأكد على ذلك وكرره، وجعلها القاعدة الأساسية في الحياة، وطالب الزوج والزوجة بواجبات يعرفها كل منهما، واكتفى بهذه الأحكام الواسعة، وعلى كل واحد من الزوجين أن يعرف حدوده، ولا يخرج عن القواعد العامة التي وُضعت لتنظيم الأسرة.
والضمان الذي وضعه الله لتطبيق شرعه هو الوعد والوعيد؛ فمن اتقى الله وعدل - باستعمال الأحكام في مواضعها - جعل الله له من أمره يُسرًا ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن ظلم وقهر فإن الله أعلى وأكبرُ، والظلم من أكبر الذنوب، وعقوبة الظالم رهيبة مخيفة، وكثيرًا ما يُعَجِّلها الله له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من عذاب جهنم وسوء المصير.
تبرير!
تساءَلْتُ دومًا لماذا تبدو الزوجات غير وَفِيَّات لأزواجهن؛ ففيما يسكت الرجل عن مثالب زوجته وتقصيرها ولا يتحدث بذلك أمام الأقرباء والغرباء، أرى النساء يشتكين من أزواجهن في المجالس، ويشرحن عيوبهم، ويُبدين تذمُّرهن من سلوكهم، ويتأفَّفْن من الحياة القاسية التي يعشنها بصحبتهم؟
لقد كانت شكواهن تُزْعجني، وطالما تمنيت لو أنهن كتمن أسرار حياتهن، ولم يَبُحْن بها لأحد، وكم رَجَوْت أن يَحْلُلْن مشكلاتهن بأنفسهن بعيدًا عن مجالس النساء، وأن يحتفظْنَ بِسِيرة عَطِرة طيِّبة لبعولتهن أمام الجميع، إلا أنني أدركت الآن أني ظلمت النساء، وقسوت عليهن بِوَصْمِهن بقلةِ الوفاء؛ فبعض الرجال يمتنع عن الشكوى، ليس لأنه أكثر نبلاً وشهامة من المرأة، وإنما لأسباب أخرى؛ منها: أنه يعتبر الشكوى نقصًا فيَجْفِل منها، ويعتبرها ضعفًا فيتعفف عنها، ويمتنع عن الشكوى؛ لأن النساء في رأيهم حرمات، لا يجوز الكلام عنهن، فكيف سيتحدث عن زوجته على الملأ في المجالس العامة؟! وبعض الرجال حين يخرج من البيت ينسى كل شيء، وينغمس في عمله، أو يلهو مع أصدقائه، ولا يتذكر زوجته إلا حين يعود إلى البيت، أما المرأة فإنها تجلس في الدار وحيدة تَجْتَر آلامها، فتكبر عليها الهموم وتعْظُم، حتى إذا دقت عليها جارتها الباب، أو اتصلت بها أمها، سارعت إلى التظلم والشكوى.
إن شكوى الزوجات ليست قلة وفاء، وإنما هي تنفيس عن النفس، ولولا هذا التنفيس لأصيبت النساء بالأمراض النفسية والعضوية جرَّاءَ الكبت؛ فالرجل يَسُنُّ القوانين التي تُريحه، ويراعي فيها ما يحبه وما يكرهه وما يوافق مزاجه وما يخالفه، فإذا كان مثلاً لا يحب التُّحَف حرم زوجته من تزيين بيتها، وهو الذي يستفز المرأة حين يفاجِئُها بطلب لم تستعدَّ له وما أكثر ما يفعل ذلك، فيدعو لها الضيوف دون أن يسألها، وينتظر منها أن تُعِدَّ لهم وليمة، ولو كانت متعَبَة، أو يمنعها من شيء تَتُوق إليه، وقادرة عليه؛ مثل: الدراسة، أو العمل، لسبب زائف، كالغَيْرة الزائدة، وهو يستطيع البطش بها حين يتضايق منها؛ فيحبسها في البيت، أو يمنعها من أشياء تحبها، وقد يهددها بالطلاق، أو الزواج الثاني؛ ليضمن استجابتها لما يريد، وإذا أغضبه أمر رفع صوته بالشكوى، وانتظر الانصياع، فلماذا يشكو وهو لا يُسألُ عما يَفْعل، ويعمل ما يشاء؟! أما هي فماذا تملك إن أزعجها زوجها أو تناسى رغباتها وآمالها؟ ليس بيدها إلا الصبرُ والاستجابة له؛ خوفًا منه، أو لتكون زوجة صالحة، وطالما أحَسَنَت الزوجات التبعُّل ووَأَدْن أمنياتِهِنَّ، وكُنَّ كما يريد أزواجهن، إلا أن الزوجة لا تستطيع أن تتجاهل رغباتها دائمًا وأبدًا، فلا بد أن تثور يومًا على أمر ما، وتغضب وتطالب بحقها فيه، ويظن الزوج أن زوجته متضايقة من هذا الأمر فقط، أي الذي ثارت عليه في تلك اللحظة، ولا يدرك أنها تتحمل الكثير، وأنها صبرت وصبرت حتى نفد صبرها، فيحاول إقناعها برأيه، وينتظر منها الانصياع له؛ لأنه رب الدار، وبالفعل قد تنصاع الزوجة حفاظًا على الحياة الأسرية من التصدع، إلا أنها تبقى حزينة كسيرة، وتنمو بداخلها المشاعر السلبية نحوه، وتراه أنانيًّا، يتَّبِع هواه، ويتجاهل مشاعرها ورغباتها، فتتألم منه، ثم لا تجد أمامها إلا الشكوى فتشكو، وتشكو، وتشكو.
أفلا يحق لها أن تشكو؟!
لقد أباح الإسلام للمريض أن يشكو ما يلاقيه، وأباح للمظلوم أن يجهر بالسوء من القول، ولا بد أنه أباح التظلم للزوجة - إن كان في سبيل الإصلاح، ولم يكن للتسخُّط والتشهير- شرطَ ألا تشكُوَ على الملأ، وإنما إلى امرأة حكيمة، تساندها بالمشاركة الوجدانية، وتساعدها بالنصيحة القيِّمة بما يساهم في حل المشكلة، أو الحد من تفاقمها، وحبذا لو كانت الشكوى إلى سيدة ذات مروءة؛ حتى تحتفظ بالشكوى سرًّا، فلا تنتشر.
على أني - وإن بيَّنْتُ عُذر النساء في الشكوى - أنصَحُهُن ألاَّ يَلْجَأْن إليها إلا حين يبلغ السيل الزُّبَى، ولتبدأ الزوجات قبلها بمحاولة التقرب من بعولتهن، وشرح ما يعانينه بالطريقة التي يفهمها الزوج، ولكل زوج أسلوب يقنعه، فإن لم ينفع، وتعذَّر كُلِّيًّا التفاهم ُبينهما لجأت المرأة إلى الشكوى.
وأوصي الأزواج بالزوجات خيرًا، وبمراعاة رغباتهن، والاهتمام بأحزانهن وآلامهن، ولعلهن إن وجدن الاهتمام من الزوج يَكْفُفْن عن التَّشَكِّي منه في غيابه، وتشويه صورته أمام الناس، فمجالس النساء لا تقف عندهن، وإنما تحملها كل واحدة إلى زوجها، فَتَرُوجُ الأخبار وتنتقل، ومن أراد الستر على حياته الخاصة، فلْيُوقِفِ المشكلةَ من عنده، وليرفُقْ بشريكة حياته، فإن تكلمت بعد ذلك عنه كان الخطأُ منها، والوبال عليها؛ لأنها من اللاتي يَكْفُرْنَ العشير، ويُنْكِرْن فضله، ونسأل الله العصمة من الزلل.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة