إثبات الذات!؟
إن ما نراه اليوم من تسابق النساء إلى الجامعات، وحرصهن على الشهادات، وسعيهن إلى الماجستير ثم الدكتوراه، هدفه الحصول على العمل الجيد لا تحصيل العلم النافع كما كان الأمر سابقاً! اذهبوا إلى الجامعات تروا ما أقصده؛ فالطالبات لا يقرأن إلا بمقدار الحاجة، ولا يدرسن إلا المقرر، ولا يدخلن المكتبة إلا لكتابة الأبحاث الواجبة! لأن هدفهن هو العمل بالشهادة، لا العلم الذي يرفع الإنسان درجات. فما عاد التعليم غاية نبيلة تقصد لذاتها، ولا هو هدف سام يُسعى إليه لرقيّه، ولا هو كنز يُحرص عليه لقيمته، ولا هو سلاح ينتصر بقوّته. إنما صار التعليم الطريق الوحيد إلى العمل، وأضحى العمل الشيء الوحيد الذي يرضي المرأة ويسعدها ويشعرها بأهميتها، وبه تحقق ذاتها، وتثبت وجودها، وتعلي شأنها، وبات الجلوس في البيت منتقَداً وغير مقبول عرفاً!
ولا أدري من الذي اخترع هذه الكلمات المعدودة، والعبارات المحدودة، التي باتت تُتداول هنا وهناك في سوق النساء: “أريد أن أحقق ذاتي… أريد أن أثبت وجودي… أريد أن أسمو بنفسي… أريد أن أفيد من قدراتي…”، لكن الذي أعرفه أن هذه العبارات اكتسبت في مجتمعاتنا أهمية عظيمة، وقيمة كبيرة، ولاقت قبولاً وإعجاباً شديدين في جميع الأوساط، وبين مختلف الفئات والأعمار، فأخذت ترددها آلاف مؤلفة من النساء المسلمات، وتعمل بها وتعلمها غيرها، حتى ما عادت هذه الجمل مجرد كلمات وعبارات وحسب، بل صارت شعارات ترفع، وصارت مذهباً له أتباعه، وله المدافعات عنه، والداعيات إليه.
* * *
أهمني وضع المرأة هذا، وأقلقتني العبارات التي ما فتئت ترددها، وأخافتني الشعارات التي ما برحت ترفعها، فبحثت في الكتب عن تفسير لهذه الظاهرة يجلو لي غرابتها، ويوضح لي غوامضها، فما عثرت عليها إلا عند علماء النفس، وما وجدت لهذه الظاهرة إلا تفسيراً واحداً هو أن المرأة تفتقد التقدير والاحترام، وهي في خروجها إلى العمل تبحث عنهما، وقرأت أن الحاجة إلى التقدير والاحترام حاجة ضرورية، والسعي وراءهما ظاهرة طبيعية عادية.
لكن الظاهرة تطورت، وأصبح “إثبات الذات” بالعمل خارج البيت لا بغيره هو أسمى أهداف المرأة، وغاية آمالها، ومنتهى أحلامها! وأضحى “إثبات الذات” هدفاً سامياً تتصاغر أمامه كل مكرمة، ويُحتقر -مقارنة به- كل عمل، وتتهاوى دونه كل غاية… وبات “إثبات الذات” الغاية الوحيدة للنساء دون النظر إلى أي اعتبار آخر مهما كان مهماً، فسيطر عليهن مفهوم الخروج إلى العمل لذاته وانتفت أهمية الكفاءة في إدارته والقدرة عليه والإتقان والإخلاص والفهم الجيد لطبيعته وشروطه. وتم إهمال البيت والزوج والأولاد في سبيل هذه الغاية.
وازدادت -مع مرور الأيام- أعداد العاملات وقلّت الأمهات، وما عاد “إثبات الذات” بكل ما سبق ظاهرة طبيعية، إنما صار سباقاً محموماً، وكابوساً مرعباً، ومرضاً معدياً خطيراً يُخشى منه. وقد سجلت الإحصائيات ضحايا أبرياء له: فبينما كانت المرأة تحقق ذاتها، كان أولادها يفقدون ذاتهم لأنهم دون توجيه هادف، ودون تربية قَيمة، ودون دين حنيف. فقد أُلقي في روع الأم أن أولادها لا يحتاجونها إلا قليلاً، وأن حبسها نفسها لتربيتهم قرار خاطئ، وظلم فادح لشخصها… وهل وُجدت الخادمات إلا لمثل هذه الأعمال؟! أما هي فدورها أجل، وقيمتها أسمى، ومقامها أرفع.
* * *
وبهذه المفاهيم الغريبة الخاطئة حولت المرأة عن طريقها الأصلي (التربية والتوجيه)، والتفتت إلى نفسها، معتقدة أن تحقيق الذات لا يتعامد ولا يتقاطع مع مصلحة أولادها إنما يسير بخط متواز مع تربيتهم، فإما مصلحتها أو مصلحتهم. ففقدت الأم بهذا روعة الإيثار، وحلاوة التضحية، وصارت تبدأ بنفسها وتقدّم آمالها وأحلامها حتى على أبنائها.
ودفعت الأم أولادها وراحتها ثمناً بخساً لأعمال عادية يقوم بها اليوم معظم العاملين، فهي إما موظفة أو معلمة، وكثيرات مثلها موظفات أو معلمات، فما الجديد؟ وما هي المكاسب التي كانت مفقودة وحققتها المرأة الأم بخروجها إلى العمل؟ لا شيء! فهي لم تحقق شيئاً يذكر مقابل المخاسر التي خسرتها عندما قصرت في حق بيتها وأولادها.
* * *
فلماذا هذا العناء، ولم الخروج إلى العمل و”إثباتُ الذات” سهلٌ متيسر وفي متناول الجميع؟ فإثبات الذات -كما يقول علماء النفس- يتحقق بالجهد والعمل المثمر والتحسن الدائم والإنجاز المبدع. فهو لا يتطلب العمل خارج البيت، ولا يدعو إلى إهمال التربية، ويتحقق بأبسط السبل:
(1) فببيتٌ نظيف مرتب منظم كأحسن ما تكون النظافة والترتيب والنظام، يحقق لصاحبته “إثبات الذات”، وقلّ أن نرى هذا!
(2) والأم التي تربي أولاداً متفوقين على أقرانهم ديناً وخلقاً وسلوكاً وعلماً وصحة تثبت ذاتها وقدراتها بالدليل القاطع؛ فعملية إنجاب الأطفال تتساوى فيها الغالبية العظمى من النساء، ولكن الأم الحقيقية هي تلك التي يمكنها أن تجعل من مولودها الجاهل الغر إنساناً صالحاً يتحلى بالمثل العليا، والأخلاق الحميدة. فليست كل من تنجب طفلاً هي أم، وإنما الأم هي من تربي وتوجه، وتعتني بإشباع حاجات طفلها وتنمية مواهبه وقدراته، ليكون فرداً متميزاً. والحقيقة أن هذه الأم ما زالت غير موجودة حتى إشعار آخر!
(3) ويمكن للمرأة أن تثبت ذاتها بالعلم نفسه وبالشهادة منفصلةً عن العمل؛ وذلك عندما تتمكن من التخصص الذي درسته: فتتفوق طالبة الشريعة بالفقه، وتتفوق طالبة اللغة العربية بالنحو والإعراب وتصبح كل منهما مرجعاً، وما أحوجنا اليوم إلى التفوق في هذه التخصصات، وطالما أشكلت علينا مسائل في الفقه والإعراب وما وجدنا من نسأله.
(4) وتستطيع المرأة أن تثبت ذاتها في المجالس وهي تروح عن نفسها، ذلك بصرف النساء عن الأحاديث الفارغة؛ لا بخطب منبرية، ولا بمحاضرة طويلة مملة، إنما بطرح موضوعات مفيدة منوعة ومسلية، تهتم لها الموجودات فتوسع آفاقهن وتنمي مداركهن وتساعدهن على حل مشكلاتهن.
* * *
وبعد، أختي المسلمة:
فمجالات “إثبات الذات” وطرق الحصول على التقدير والاحترام كثيرة، فلا تنساقي مع الشعارات الخادعة، ولا تظني أن العمل خارج البيت هو الطريق الوحيد إلى إثبات الذات والوصول إلى المعالي. لا، أبداً، بل السبل كثيرة ومتعددة، فلا تندفعي إلى الجامعات من أجل العمل، بل اهتمي بالعلم لذاته، واعلمي أن العلم الواسع يكفل لك “إثبات الذات” والنجاح والتفوق في كل مجال.
واعلمي أن الرجل لم يعتمد العمل والكد والكدح ليثبت ذاته، ويسعد ويرضي حاجاته النفسية. وإنما هو يعمل لأن العمل واجب مفروض عليه، فلا مهرب له منه. ولو تفكرت في هذا لوجدت أن أغلب الرجال لم يحقق لهم العمل ما يصبون إليه من إثبات الذات، والرفعة والشهرة والرضا عن النفس. بل كان عاملاً مثبطاً، فهم يتوقون إلى التقدير في محيط عملهم فلا يجدونه، ويتمنون العلاوات ولا يحصلون عليها، ويحلمون بأن تطلق يدهم في مجالاتهم ليبدعوا ويبتكروا فلا يستطيعون. فالحياة اليوم صعبة معقدة، والبطالة كثيرة منتشرة، الأمر الذي جعل العمل عبئاً على الرجل وواجباً ثقيلاً، فهو قد يضطر للعمل في غير مجاله ليحصل على مزايا أفضل، ويعدل عن امتهان المهنة التي يحبها إلى غيرها سعياً وراء المكسب الأكبر. ولقد جعلته الظروف يرضى بأي أجر ليعيل عائلته ويكفيها غوائل الدهر.
أما أنت فلست مضطرة لاتباعه لأن العمل ليس واجباً عليك، ولذا كان بإمكانك اختيار ما يروق لك من الأعمال والمجالات التي تناسبك وترضيك، وتحقق أحلامك وطموحاتك. فتريثي قليلاً وتخيري بعناية، ولا تضيعي جهودك في أعمال قد لا تعود عليك بالفائدة المرجوة أو بالنفع الكبير.
ولكن إياك أن تنسي أن أفضل سبيل تختارينه هو السبيل الذي لا يضر بمصلحة أولادك ولا يؤثر على أمومتك. وتذكري دائماً أن تفوقك في تربية أولادك واحد من أهم سبل “إثبات الذات”، إن لم يكن أهمَّها على الإطلاق!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن