الطريق المأمول حتى لا نصير كالعجل المأكول

من الأمور المتفق عليها في أعراف الواقع البشري أن التاريخ يعيد نفسه، وأن من لم يعظه التاريخ ولم يكن له فيه عبرة واعتبار، فإنه ليس تنقيصًا من إنسانية الإنسان، بل هو تبيان واستذكار. فإن من كان حاله كذلك فهو حمار. ولسنا نأتي بالمثل من كتب كتبها البشر بحق البشر. إذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف ونعطي لكلامنا أثرًا وثمرًا، فقد وصف رب العزة سبحانه قومًا من الناس هم حملة التوراة ومن كان مثلهم وسار على منوالهم بقوله سبحانه: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة، الآية 5].
والشعوب التي لا تقرأ تاريخها التليد ولا تعرف استنتاج مستقبلها السعيد من الدروس والعبر في الماضي القريب والبعيد، لا يمكن لها أن تكون في مكانة تتيح لها استخلاص العبر ونفض التراب عن رؤوسها وجعل الماضي صالحًا للأخذ به لمن قد حضر. ولقد أسهب كتاب الله في إعطاء الدروس التي تعطي الأمثال وتريد بها التفكر لكل مَن يأتي بعدها ويعرف كيف يستفيد منها ولا يقع فيما وقع به أهلها. قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، دمر الله بنيانهم وللكافرين أمثالها} [الجاثية، الآية 26]. وقوله تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وآثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبيانات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [محمد، الآية 13]. أجل، من هنا يمكن لنا القول إنّ مَن لا ينظر إلى الماضي بتدبّر وتفكّر واعتبار، لا يمكن له أن يصلَ إلى مستقبل فيه إشراق وأنوار.
وشاهد القول في مقالنا هنا هو ما يمكن تسميته بالتراخي أو التماهي أو التساهل في موقف الأمة الإسلامية اليوم تجاه قضاياها الكبرى، وليس أكبر منها في الحاضر المعاش قضية فلسطين وقلب الطوفان الهادر فيها، غزة هاشم. حيث إن الذي يجمع بين الأمة الإسلامية وبين فلسطين هو التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والجوار في أكثر بلدانها العربية تحديدًا. ولكن ما جرى ويجري قد تعطلت فيه كل هذه المقومات، وأصبح أهل تلك البلدان المجاورة لفلسطين وغزة في ركود وسبات وتجاهل وصل إلى حد النكران والخذلان وقلوب من جماد. فقد تعطلت أخوة الدين التي تقوم على قول الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات، الآية 10]، وأصبح كل واحد يقول: 'أولا نفسي وأهلي وبلدي، وما بعده فلا يهمني أن عاش أهلها أحد منهم أو قد مات'.
ولقد ساهم الحكام المأجورون الفاسدون في هذا الواقع من الخذلان بالقمع والتهديد والسجن والقتل لكل مَن يريد نصرة أهل دينه، ولو بالسير في الطرقات احتجاجًا أو برفع الصوت بالإعلام استنكارًا ونفض الرؤوس من تحت الرماد.
والسؤال هنا: هل يَأمَن الحكام ومن يواليهم أو يهادنهم أن تبقى الأمور عند حدود ما هي عليه من حرب أعداء الله من اليهود وأعوانهم على حدود فلسطين، وفي غزة تحديدًا، وتبقى باقي الدول العربية والإسلامية من المحيط إلى الخليج في مأمن من هذا الوحش اليهودي الناشب أظفاره الدموية في كل حجر وبشر وشجر ومدر، ولا يمتد طغيانه إليها ويسيل لعابه للنيل منها إن سنحت له الفرصة، لما وجده من تنكرها لإخوانها وعدم اكتراثها لما أصابها؟
إنه، وكما قلنا آنفًا، التاريخ يعيد نفسه، ومن لم يستفد من تاريخ ماضيه ليس له ثم حاضر يحياه ولا مستقبل يرجاه. ولقد عرف تاريخ الأمة في العصر الإسلامي العباسي ما يمكن وصفه بغزو الجراد من التتار، الذين دخلوا أول ما دخلوا بلاد خراسان، وشاهد أهل بغداد مركز الخلافة آنذاك ما شاهدوا من اكتساح المغول للبلدان المجاورة لهم، وآثروا السلامة على نجدة إخوانهم. فكان أن جاءهم الدور ودخل التتار بغداد وقتلوا ما يزيد عن مليون من أهلها، وأحرقوا كل معالم الحضارة والعلم فيها، ودخلوا قصر الخليفة بنفسه وقتلوه في عقر داره. وامتد عدم الاتعاظ إلى أهل الشام الذين رفعوا رايات السلام، وأقاموا مع التتار معاهدات واتفاقات، ووقفوا يشاهدون بغداد تحترق وأهلها كالنعاج يذبحون. ولم تمضِ بضعة أشهر حتى جاءهم التتار واحتلوا الشام ودمروا دمشق وأحرقوا حلب، ومع ذلك كله أيضًا لم يتعظ أهل مصر، وكان الحكم فيها بيد المماليك. وكادوا أن يقبلوا بشروط الغزاة من التتار المجحف والظالم، ويخضعوا كما خضع غيرهم، لولا أن قيَّض الله لهم المظفَّر قطز الذي وقف مع رجال أمثاله أشداء في نصرة الحق وأهله، وخاضوا معركة عين جالوت المظفرة التي انتهت بزوال الاحتلال المغولي الظالم وتطهير بلاد المسلمين من رجسه.
إن خلاصة ما ينبغي قوله هنا، إن من يحسب اليوم دول الجوار العربي والإسلامي أنه بمأمن من التتار الجدد في فلسطين فهو واهم ويعيش في أحلام وردية. ذلك أن الله سبحانه وهو أعلم بما في صدور العاملين قال عن اليهود: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} [المائدة، الآية 82]. وعداوتهم يجد العالم بعض آثارها من جميع أنواع القتل الهمجي البربري الفاقد لكل معايير الحس الإنساني والأخلاقي في غزة المجاهدة، بالقتل الممنهج بالسلاح الفتاك والتجويع ومنع الغذاء والدواء عن الأطفال والنساء والعاجزين. وهو يستفيد، بعد استفادته من همجيته المتأصلة في دمه والسارية في عروقه. أقول إنه يستفيد أيما استفادة من هذا الصمت المطبق من الحكام والشعور في غالبية دول العروبة والإسلام.
ويصل الأمر حد أن تجد المجالس الباذخة والموائد المفروشة بأطياب الطعام والشراب، يشارك فيها أمراء وعلماء دين في بلاد الحجاز وجواره، وكأنّ مَن يموت من أطفال رضَّع ونساء وشيوخ ركَّع، ليسوا إخوانًا لهم في الدين إن لم يكونوا إخوانًا في الإنسانية. إن حال هؤلاء جميعًا لا ينطبق عليه إلا المثل القائل: 'أكلت يوم أكل الثور الأحمر'. وكم ثيران سوف يأتيها الدور ويمر عليها سكين الذبح إن لم تستفق من غفلتها وتعرف مصيرها الذي لا يفترق عن مصير إخوانها.
نسأل الله الهداية والرشد، وأن يجعلنا من المستبصرين. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الطريق المأمول حتى لا نصير كالعجل المأكول
التغطية مستمرة... لكن الأرواح غادرت
سر الثبات في الحياة وعند الممات
بذور الحقول المعجميّة في التّراث العربيّ
نهايات وعبر لأراذل بني البشر