فاصفَحِ الصفحَ الجميل
ألّف الإسلام بين القلوب، وأصبح الناس بنعمة الله إخواناً، جمع القلوب المتنافرة، والنفوس المتباغضة، وأحاط برباط قوي متماسك من التآلف والتآخي، رباط عقده الله بين المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ووصفه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً» وشبّك بين أصابعه، متفق عليه. بهذه الأخوّة الصادقة بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفوس المؤمنين، فامتلأت قلوبهم بالمحبة والمودة والتآلف، والإخاء، والتصافي والتسامح. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المثل الأعلى لـهـذا الخُلُق؛ وقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى منها قوله صلّى الله عليه وسلّم : «إنّ المؤمن ليُدركُ بحُسن خُلُقه درجة الصائم القائم» رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وقد سطّر الصحابة الـكرام أروع الـمـواقف في الصفح والعفو، فهذا أبو ذر يعيّر بلالاً بأمّه السوداء! فشكاه بلال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما كان من أبي ذر إلاّ أنّه ندم على قولته، فوضع خدّه على التراب وقال لبلال: والله لا أرفع خدّي حتى تطأه بقدمك. فتعانقا وتصالحا وتصافحا.
إنّه الإسلام الذي صاغ تلك النفوس وهذّبها، فصفت وتسامت، ولم يتمكَّن الهوى من نفوسهم رضي الله عنهم. إنّه الإسلام الذي علّم المؤمنين كيف يستلّون بذور الحقد من القلوب، ويغسلون أدران البُغض والغِلّ من الصدور، علّمهم أن المؤمن الحق لا يحسُدُ أخاه المؤمن ولا يحقد عليه، وإنما يقول له: غفر الله لك. فهذا الإمام القُدوة الحكيم ابن السمّاك لقيه أحد أصدقائه فقال له: الميعاد بيني وبينك غداً نتعاتب، فقال له ابن السمّاك: لا والله، بل الميعاد بيني وبينك نتغافر!!
فما أروعه من جواب، وما أجمله من تسامح، إنّها نعمة لا يشعر بها إلا من ذاقها، نعمة يهيّئها الله لعباده المؤمنين لتذوب أمامها كل الضغائن والأحقاد.
إن التعاتب يعكِّر الصفاء والتغافر أطهر للقلب وأنقى، وما أجمل أن يقول أحدنا للآخر غفر الله لك ولي، إذا بدرت منه هفوة أو زلّة، وما أجمل أن نتسامح ونتصافح لأن ذلك لا يزيد المؤمن إلاّ عزّاً ورفعة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلاّ عزّاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» رواه مسلم.
قال الإمام الشافعي: إن من علامات الصادق في أخوّة أخيه أن يَقْبل عِلَلَه، ويسدّ خلَلَه، ويغفر زلَلَه.
إن المؤمن الحق يتجنب تتبُّع أخيه على هفواته، وتقريعه على صغائر زلاّته، فطالما كان العتاب سبباً في القطيعة، وطريقاً إلى الشحناء والفُرقة، فإن عاتب فليَكُن بلطف ورِقّة وبنيّة النصيحة لأن القلوب كالزجاج صدعها لا يُجبَر، وليدفع بالسيئة الحسنة فذلك أدعى لدوام الألفة، وبقاء المودة، واستدامة الصحبة، ولقد أحسن الشاعر إذ يقول:
ألا سامحْ أخـاك إذا تـعـدّى وألقِ إليه في الحرب السلاحا
فمَن يَعتَبْ على الإخوان يتعبْ ومَن لَزِمَ المسامحةَ استراحا
فما أجمل أن نُغَسل القلوب من كَدَر الأحقاد لترتاح النفس وتهدأ الأعصاب، وما أجمل أن يعيش المؤمن سليم القلب، نظيف الصدر، لأن القلب الأسود داءٌ قاتل يُفسد الأعمال الصالحة، ويطمس بهجتها، ويعكِّر صفوها.
وكم يبارك الله في القلب المشرق، فطاعات قليلة ترجح وتتنقل في ميزان الله مع قلب طاهر سليم نقي، ولكن كثير من الطاعات لا تُغني مع قلب حاقد سقيم.
هذه هي - أيتها المسلمة - مدرسة الإسلام، مدرسة العفو والصفح، مدرسة الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، مدرسة المحبة والإخاء والصفاء، نهلوا من مَعينها فكانوا خير أمة أُخرجت للناس تنشر شذاها على مدى الدهر والزمان.
روى سيدنا عمرو قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صَدوق اللسان»، قالوا: صَدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غِل ولا حسد» رواه ابن ماجه.
ويروى أن الإمام عامراً الشَّعبي وهو من أجلّ علماء التابعين، قام أمامه رجل وقال له: كذبت يا عامر، فلم يغضب عامر ولم يثُرْ، بل قال له: إن كنتَ صادقاً فغفر الله لي، وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك.
إنها القلوب النقية، والسرائر الصافية، فالمؤمن يكظم غيظه ولا يتشفّى بحقده على من أساء إليه، بل يعفو ويصفح ويغفر لأن الله يحب المحسنين.
المؤمن يسارع مع إخوته لتوثيق عُرى المودة، وروح المحبة، لأنه إذا فُقدت هذه الروح ووَهنت هذه العُرى فَقَد الإخوة وقع الأُخوّة في الشقاق والنزاع، واستشرى الحقد والغلّ والبُغض والحسد في النفوس، وتغلغلت الخصومة في القلوب، وتفرعت أشواكها في الصدور، فتتنافر القلوب وتنكسر حبال المودة والمحبة، والله تعالى لا يرضى أن تنتهي هذه الصلة بين المسلم وأخيه المسلم إلى هذا الدرك من الشَّحْناء والبغضاء؛ أمر بإصلاح ذات البين ليحل الوئام محل الخلاف، والود والصفاء محل العداوة والبغضاء، أمر بالإصلاح لأن الإصلاح سبب لرحمة الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}.
وقد بيّن لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الإصلاح بين الإخوة أفضل درجة من عبادات كثيرة: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة».
فيا أختَنا، حريٌّ بنا أن نحقق إيماننا بالتآلف والتسامح والتراحم حتى نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى.
ولنتبصر بالعواقب وندفع الشدائد، ونغفر الزلات، ونعفو عن الهفوات، ونُقيل العثرات، وليكن رأسُ مالنا قلباً نقياً طاهراً من دَرَن الأحقاد والأضغان.
ولنردِّد قول الله عز وجلّ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِناِ} {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة