العلاقة بين المستوى العلمي والاجتماعي
قرأتُ في الكثير من الاستشارات ترْكيزكم في مسألة الزواج على الفوارق الاجتماعيَّة، وحِرْصكم أن يكونَ المتقدِّم للفتاة ميسور الحال، وأيضًا أن تكون الفتاة من نفس الطبقة الاجتماعية؛ حتى لا تكون تلك الفوارق سببًا في تعكير الحياة الزوجية مستقبلاً، ولا شك أن هذه التوجيهات صحيحة إلى حدٍّ كبير، ولها ما يساندها في واقعنا الاجتماعي، وقد لاحظْتُ شخصيًّا الكثير من الحالات في بيئتي لَم يراعَ فيها هذا الجانب، فانقلبت الحياة الزوجية رأسًا على عقب.
ولكن أردت أن أسألَ: إذا ما كان المستوى العلمي والثقافي متقاربًا، وكلا الطرفين يدرك أثر الفوارق الاجتماعية على الحياة الزوجية، فهل هذا كافٍ للارتباط؟ أو أنها حتمية اجتماعية - إن صحَّ التعبير؟
لا يَغرُرْك قِصَرُ سؤالك، فإنك سألت عن أمر عظيم يحتاج إلى جواب طويل، ولولا أن الذي سألتني عنه يهمّ آلافاً من الناس سواك لأوجزت، وأنا سأوجز على أية حال لأن التطويل يحتاج إلى كتاب لا إلى مقالة، ولكن إيجازي لن يكون قصيراً، فالأمر أجَلّ من الإيجاز المُخِلّ، لأن المجتمع المسلم الفاعل الذي نبحث عنه لا يقوم إلا على أسر مستقرّة ينشأ فيها جيل صالح، وهذه الأسرة مبدؤها زواجٌ ناجح. والنجاح في الزواج كالنجاح في أي مشروع أو عمل، يحتاج إلى توفيق من الله، وهذا نصل إليه بإخلاص النيّة وبكثرة الدعاء، وإلى عمل وجِدّ واجتهاد، وبهذا نكون قد أخذنا بالمنهج النبوي الشرعي الصحيح: اعقلها وتوكّل.
أنت وأنا وكل واحد من الناس يحتاج إلى شراء أنواع من الألبسة، أثواب وبناطيل وقمصان وغيرها. فلو أنك أردت شراء قميص وذهبت إلى متجر الألبسة، فهل تحمل أول قميص تجده أمامك وتدفع ثمنه وتمضي، أم أنك تبحث أولاً عن المقاس المناسب؟ أنت تدرك أن من القمصان ما هو أصغر من حجمك فلا يكاد جسمُك يدخل فيه، أو أكبر فيكون واسعاً فضفاضاً وتبدو فيه مضحكاً لو أنك ارتديته، فتدع هذا وهذا وتبحث عن القميص الذي يوافق مقاسُه حجمَ جسمك. لكن هل هذا هو كل ما تبحث عنه؟ هل تحمل أول قميص يتفق أن تعثر عليه من المقاس المطلوب، أم أن لك ذوقاً في اللون أو في الشكل، ومطلباً في نوع القماش وجَودة التفصيل، وتفضيلاً للكم القصير على الطويل أو الطويل على القصير، وغير ذلك من الجزئيات والشكليات؟
إنك سوف تهتم بما يلائم ذوقك ومطلبك من ذلك كله، وسوف تبذل في الانتقاء والشراء جهداً وتصرف فيه وقتاً، رغم أنك إنما تشتري قميصاً تلبسه أياماً وتدعه أياماً، ويعيش معك سنة أو سنتين ثم يبلى فتستبدل به غيرَه، ولو أنك زهدت به أو اكتشفت بعد حين أنك أسأت الاختيار فما أيسرَ أن تتخلص منه، فتهبه لمن هو أكثر منك حاجة إليه وتستفيد وتُفيد. لقد حرصتَ على الاختيار الجيد ولم تألُ جهداً في الموازنة والتفكير وأنت تشتري هذا القميص، ولو أنك أردت شراء سيارة لضاعفت ما تصرفه من التفكير والدرس والموازنة عشرة أضعاف أو عشرين ضعفاً أو خمسين، ولا تكاد تجد في نفسك -بعد ذلك كله- الاطمئنان والاسترخاء إلاّ أن تستشير مَن هو أعلم منك، ثم تستخير من هو أعلم منه ومنك ومن الناس أجمعين، اللهَ رب العالمين.
والآن خذ ورقة وقلماً واكتب جملة من القرارات التي يجب عليك اتخاذها في حياتك: زيارةَ صديق، شراءَ ملابس، وجبةً في مطعم، سفراً في الإجازة، استئجار بيت، اختيار الدراسة الجامعية، الزواج... إلى غير ذلك من عشرات وعشرات من القرارات أو مئات ومئات، مما يجب عليك البتّ فيه بين يوم ويوم أو بين عام وعام وأنت تمضي في درب الحياة. انظر إلى هذه القائمة ثم أخبرني: هل يتفق ما يصرفه الناس من تفكير بكل واحد من هذه القرارات مع أهميته النسبية، أم أنهم يهتمون الاهتمامَ الأكبر بالأمر الأصغر، ثم يستهينون بعظائم الأمور فيبتّون فيها بلا رويّة ولا تفكير؟ لن أقول إن عامة الناس يترددون ويفكرون عند شراء بيت أو سيارة أكثر مما يترددون ويفكرون عندما يُقبلون على الزواج، فهذا مما لا يكاد يختصم فيه اثنان، بل إني لأكاد أقسم -غيرَ حانث- أن عدداً غير قليل من الناس يبذلون من الجهد والبحث والدراسة في اختيار حاسوب أو جوّال ما لا يبذلونه في اختيار شريكة الحياة!
لنتفق إذن على أول مسألة قبل المضيّ قُدُماً: إن قرار الزواج واحدٌ من أخطر وأكبر القرارات التي يتخذها الواحد منا (أو الواحدة) في الحياة، وأيُّ استهانة بهذا الأمر الجلل أو تعجّل أو خطأ في اتخاذ القرار سيحكم على ما يأتي من حياتنا بالسعادة والهناء أو بالتعاسة والشقاء. إذا اتفقنا على هذه المسألة صار ما بعدها تبعاً لها، إذ يلزمنا أن نَقْدر لهذا القرار الخطير قَدْرَه وأن نمنحه ما يستحقه من التمحيص والبحث والتفكير، اعتماداً على مجموعة من الضوابط والشروط
ولنعد قليلاً إلى الوراء، إلى القميص الذي بدأنا به الحديث: إنك تبحث عن مجموعة من الصفات، لكن قميصاً لا يناسب مقاسُه مقاسَ جسمك لن يكون محلاً للتردد والتفكير ابتداءً، لأن توفر كل الصفات الأخرى أو عدم توفرها ليس ذا قيمة ما دمت ستعجز عن لبس القميص بسبب اختلاف مقاسه. أي أننا نستطيع أن نقول إن هذا الشرط أساسي ولا يمكن الاستغناء عنه، فما هو الشرط الذي يقابله في الزواج؟ المال؟ الجمال؟ المستوى الثقافي أو المستوى الاجتماعي؟ لا أعلم ما هو عند غيرنا ولا يهمّني أن أعلم، أما عندنا فهو الدين؛ فإذا ذهب المسلم المتدين يبحث عن زوجة فوجد ملكة الجمال الآسِر أو وارثة المال الوافر، لكنه لم يجد الدين، فهل يمكن أن يفكر بالزواج بها؟ قطعاً لا. إذن فهذا هو المعيار الجوهري وهو الأساس الذي يقوم عليه كل ما عداه.
بعد ذلك توجد قائمة من الشروط تضم في مستواها الأعلى التوافقَ الاجتماعي، وهو ما يمكن أن نعبّر عنه بانتماء الزوجين إلى "الطبقة الاجتماعية" ذاتها. وليس المرادُ بالطبقة الاجتماعية مقدارَ المال الذي تملكه الأسرة، بل موضعها من السلّم الاجتماعي. ولكل مجتمع سلّمٌ وفي كل مجتمع طبقاتٌ، وقد أشرت إلى هذا المعنى في جواب أجبته في هذا الموقع من عهد قريب (بعنوان: "كيف أتزوج") واستشهدت على هذه الحقيقة الاجتماعية بقوله تبارك وتعالى: ﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتَهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخْرياً ﴾. فالموظفون الذين يعملون في الدوائر الحكومية بالدرجات الدنيا يصنعون طبقة من الطبقات، والموظفون الذين ينتمون إلى الدرجات الوسطى يصنعون طبقة غيرها، والذين ينتمون إلى الدرجات العليا يصنعون طبقة ثالثة، ورابعة تضم التجارَ المتوسطين، وخامسة الأثرياءَ الكبار من التجار، وسادسة تضم مدرّسي الجامعات والمعاهد، وسابعة فيها أهل الحِرَف، كالدهّان والسبّاك والمبلّط وميكانيكي السيارات... وغيرها وغيرها، فما أردت الاستقصاء ولكن التمثيل. فإذا أردت للزواج أن ينجح فلا تجمع بين ابن مدير الشركة وابنة السائق فيها، ولا بين ابنة عميد الجامعة وابن الحارس الليلي، لا كِبْراً ولا ترفّعاً، فليس عندنا -في الإسلام- تفضيلٌ لأحد على أحد إلا بالدين والتقوى، ولكن لأن طبيعة حياة هؤلاء ليست كطبيعة حياة أولئك، والقِيَم الاجتماعية تختلف بين الفريقين، بل قد تتناقض، فما أسرعَ ما يتسلل الشقاق إلى زواج يربط اثنين من عالمين اجتماعيين متباعدين.
ثم ننظر بعد ذلك في المستوى العلمي والثقافي للرجل والمرأة، فإذا كانا من مستويين متباعدين غَلَبَ على الظن الاختلافُ لا الائتلاف، وكلما كان الفرق بينهما أوسعَ صارت مظنّةُ فشل الزواج أكبرَ، ولا سيّما إذا كان الأدنى بينهما هو الرجل والأعلى هي المرأة، وهذا مجرَّبٌ معروف، لا تأخُذْ قولي عليه دليلاً بل آلاف الحالات التي تسجلها عيادات العلاج النفسي في كل بلد في كل عام. وإذا تحدثنا عن المستوى العلمي والثقافي فإن التعليم الرسمي والشهادة هما ما يخطران بالبال، وهذا صحيح جزئياً، لكنه لا يكون صحيحاً تماماً إلا بأخذ المستوى العلمي الحقيقي في الاعتبار، أي ما يملكه الطرفان من ثقافة وعلم لا ما يحملان من شهادات، ورُبّ حامل شهادة لا يفقه شيئاً من علم ورُبّ عالم لا شهادةَ في يده.
هذا كله هو ما يحقق "التوافق العام" بين الزوجين، ويبقى -بعد ذلك- "التوافق الخاص"، فكل اثنين من الأزواج (والزوج كلمة تُطلَق في اللغة العربية على الواحد من الزوجين أو عليهما معاً، قال قُطرُب: "الزوج من الأضداد، يقال زوج للاثنين وزوج للواحد")، كل اثنين من الأزواج يرتبطان معاً كما ترتبط قطعتان من الأحاجي التركيبية (لوحات البَزِلْ)، فلو بدّلتَ قطعة منها مكان قطعة لَتَعذّرَ الارتباط أو تعسَّرَ. ولكي يتحقق هذا التوافق الخاص بين الزوجين فإن على كل منهما أن يوافق هوى صاحبه شكلاً وطبعاً، فربما استقبح الرجلُ المرأةَ القصيرة وطلب الطويلة، أو رغب في القصيرة واستهجن الطويلة، وربما أحبت هي النحيفَ من الرجال وكرهت السمين، أو فضّلت السمين على النحيف. ولا تتعجَّبْ، فإن من حق المرأة أن تفضّل شكلاً على شكل مثلما أن من حق الرجل أن يطلب شكلاً ويزهد في سواه، وما دام الزوجان سيعيشان معاً العمرَ الطويل فإن المصلحة والحكمة تقتضيان أن يرتاح كلٌّ منهما إلى شكل صاحبه. وليس الشكل طولاً وعرضاً فقط، بل هو في ملامح الوجه وشكل الرأس ولون العينين وفي الشعر والبشرة وسواها. وإن كانت المبالغة في تقصّي ذلك كله مما يُذَمّ ومما يُخرج الزواجَ عن معناه الأصلي، وهو التقاءُ نَفْسَين على السكينة والرحمة اللتين هما من ثمرات الخُلُق والطبع أكثر ممّا هما من ثمرات الشكل والمظهر، لأن الشكل يُؤلَف مع الوقت فتُخفي الألفةُ ما فيه من عيوب، في حين يُظهر طولُ العشرة عيوبَ الخُلُق والطبع ويعظّمها حتى تحوّل الحياةَ إلى مرارة أو إلى قطعة من الجحيم.
لذلك أوصي الأزواج الذين يبحثون عن شركاء الحياة أن يهتموا بالصفات الشخصية والطبعية أكثر من اهتمامهم بالصفات الشكلية المظهرية، لأن الطباع الحسنة والصفات الشخصية الصالحة تُصلح الحياة، ولا يصنع ذلك الشكلُ مهما بلغ من الحسن والبراعة. وما هي هذه الصفات الشخصية والطبعية التي ينبغي أن يهتموا بتحريها والبحث عنها؟ هي جماع الخُلُق الحسن، من نبل وكرم وصدق ووفاء وشهامة ونخوة وسعة صدر وحسن عشرة، وليتجنبوا -بالمقابل- كل طبع مرذول من أضدادها... وإن يكن الناس متفاوتين في حساسيتهم ودرجة اهتمامهم بكل واحدة من هذه الصفات، فربما وجد رجل من الرجال أن الكسل هو الطبع الذي لا يمكن أن يحتمله في شريكة الحياة، ثم لم يُبالِ بعصبيّتها وسوء خلقها، وآخر يعتبر النكد وسوء الخلق طبعاً مانعاً من الزواج مهما تكن المزايا الأخرى التي تملكها المرأة، وقد يكون أفظع طبع سيء عند ثالث هو المشاكسة والعَنْد (العَنْد والعُنود هما مصدر الفعل "عَنَد يعنِد" بمعنى الإصرار على العصيان. ولا تقل "عِناد"، فهي مصدر الفعل "عاند" بمعنى خالف وردّ الحق وهو يعرفه). والفتاة كذلك: ربما كان "الكرم" هو الصفة التي لا يمكن أن تقبل زوجاً لا يتحلى بها، وربما كانت "الشجاعة"، فلو تقدم لخطبتها أعظم الناس قدراً وأعلاهم نسباً وأوفرهم مالاً وأكملهم جمالاً، لكنه بخيل أو جبان، فلن تملك إلا رفضه وانتظار سواه
على أن تحقيق المواصفات الشكلية والشخصية المطلوبة كلها يكاد يكون من المستحيلات، بل هو من المستحيلات على التحقيق، إذ لا يُتصوَّر اجتماع قدر كبير من الشروط في شخص واحد، لا في رجل ولا امرأة، ومن أجل ذلك أوصي الشبّان الذين يبحثون عن زوجات والفتيات اللائي ينتظرن أزواجاً، أوصيهم وأوصيهن جميعاً أن ينظموا الشروط والصفات التي يريدونها في شريك العمر في ثلاث فئات: الأهم منها، الذي لا يتنازلون عنه ولا يرضون الزواج إلا بوجوده، وليكن في القائمة (أ)، ثم الصفات والشروط التي يعتبرونها مهمة جداً لكنهم يقبلون التنازل عنها، ولتكن في القائمة (ب)، وأخيراً ما يعتبرونه صفات وشروطاً تكميلية يُستحسَن وجودها ولا يعوق الزواجَ فَقْدُها، وهي القائمة (ج)، وفي كل واحدة من هذه القوائم الثلاث قسمان، قسم لما "يجب أن يتوفر في الشريك" من صفات، وقسم لما "يجب أن يخلو منه الشريك" من صفات. ومن البديهي أن نقول إن القائمة الأولى يجب أن تكون قصيرة قليلة العناصر، والثانية أكثر منها وأوفر، وأن تكون أكثر الصفات والشروط من النوع التكميلي الذي ينتمي إلى القائمة الثالثة
الخلاصة: إن الزواج الذي يُرجَى له أكبر قدر من النجاح هو الزواج الذي يؤسَّس على الدين أولاً، فيبحث كل واحد من طرفيه عن شريكٍ دَيِّنٍ يخاف الله ويلتزم بشرعه. ثم على التوافق البيئي ثانياً، من حيث الطبقة الاجتماعية والمستوى الثقافي والفكري. والذي يحقق -ثالثاً- المواصفات الشكلية والشخصية التي يريدها كل واحد من الزوجين في شريكه، ولا سيما الأهم منها في نظر كل منهما.
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة