ما هي الرجولة ؟
من صغري وأنا أسمعهم يقولون:
"تربية الصبيان أصعب من تربية البنات"، و"الصبي لا يمكن ضبطه ولا توجيهه"، ويستشهدون بقوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]، ويشيعون: "الذَّكَر لا يسمع الكلام ولا يستشير، ويصفق الباب ويخرج إلى حيث لا ندري، ويتصرف على هواه ولا توجد قوة تمنعه أو تردعه أو توقفه"
ومرت السنون على هذا الحال، والمفاجأة حين تصدَّرتْ "هؤلاء الأمهات" المجالسَ وانتقلن من الحديث عن "فشلهن وإحباطهن"، إلى الحديث عن "نجاحهن في التربية"! وكل واحدة تشِيد بنفسها، وتقول بكل اعتزاز: "أنا ربَّيت رجالاً"، وأعجب أنا من قولها وأتذكر ما كنت أسمعه من "تذمُّرها، وشكواها، وإعلانها العجز"، وما نراه - نحن المقرَّبات منها - من "فساد ابنها الفتي وقلة تربيته
وتسألها اللاتي لا يعرفنها - من الحاضرات - وباهتمام: "وكيف استطعت ذلك؟ أفيدينا؟"، وتجيب: "أطلقتهم إلى الدنيا وهم صغار وتركتهم فيها، فاكتشفوا أن الدنيا غابة، وتعلَّموا سبل النجاة، واستطاعوا حماية أنفسهم من ظلمها وغدرها، فلا يُغبَن حقُّهم، ولا يُداس طرفُهم، فنجحوا"، وتؤكد قولَها أمٌّ أخرى (على شاكلتها): "تربية الابن على (الرجولة) عملية سهلة جدًّا، ولكي يصبح الولد رجلاً؛ اتركيه مع أقرانه في الشوارع؛ فيتعلم وحده، ويصبح (كَدَعًا)؛ أيْ: (رجلاً) يُعتمَد عليه، والدنيا أكبر مدرسة".
وأتساءل في سرِّي: "ولكن الدنيا وحدها لا تصنع رجالاً! إنها تضيع الأبناء، وتعلمهم أسوأ العادات، وأقبح السلوك، والمكاسب التي تعطيهم إياها الدنيا هي أقل بكثير مما تأخذه منهم".
حتى إذا خرجنا - من اجتماعنا - إلى الشارع، نظرتُ إلى شاب من أولاد هؤلاء الأمهات، فرأيت مظهره ولباسه وشعره وسلوكه لا يُرضي ولا يَدلُّ على التزام، وشهد أقرانه بأنه لا يُولي الصلاة أهميَّة، ولا تعني له التقوى شيئًا، وأنه عاقٌّ لأهله وسيِّئ الخلُق، ولا يتحمَّل المسؤولية، ويركض وراء الشهوات، وأكثر زملائه مثله.
رأيت ما رأيته، وساعتَها فهمت أن "مفهوم الرجولة مختل لدى العامة"، وأن بعض الناس "لا يعرفون المعنى الحقيقي للرجولة"؛ ولذا نَدَرَ الرجال وقَلَّت أعدادهم!
فمن هو "الرجل" برأي عامة الناس؟
1- من يُميت عواطفَه ويُظهر الجَلافة والقسوة والهيمنة، وكلما بدا مسيطرًا وحاسمًا وأصدر الأوامر والنواهي، كان أكثر رجولة، والتجبُّر جيِّد ومطلوب، وإذا تجاوز الشاب أباه وسيطر على أخواته، أصبح أكثر إقناعًا لذويه.
وقد يحتاج "الرجل" إلى بعض الوسائل المساعدة؛ مثل: "السب والفحش في القول"، وأحيانًا "الضرب"؛ ليرهب من حوله، ويؤكد نفوذه وسطوته.
2- و"الرجل" يستقل بنفسه قُبيل البلوغ ولا يستشير إلا عقله، وينفرد برأيه (فهذا دليل على الاستقلالية وعدم الحاجة إلى حنكة الكبار)، ويصفق الباب ويخرج فلا يدري أحد: (أين ذهب؟ ومتى سيعود؟)، ولا يحق لأحد سؤاله؛ لأنه فوق المساءلة.
إنهم ينزعون سلطة الوالدين ويعلِّمون الأبناء التمرُّد (بحجة تغيُّر الزمان، والحرية الشخصية والرجولة)
3- و"الرجل" من لا يُبدِّل قولَه، ولا يُغيِّر كلمته، ولا يَعدِل عن رأيه مهما حصل (ولو ثبت له خطؤه)، ويُعبِّرون عن هذه الصفة بالعبارة المشهورة: "الرجل كلمته واحدة"
هذه أهم الصفات بزعمهم، وإذا تحلَّى الابن بها، فلا يهم بعدها لو كان كسولاً في كسب رزقه، وفاشلاً في التخطيط وفي إدارة أموره، وعاجزًا عن تحمُّل المسؤولية.
ولكي تكتمل الرجولة؛ يضاف إلى هذه الصفات الثلاث بعض المهارات:
4- "الرجل" عنده القدرة على الاستفادة من الناس، وأيضًا مما لدى الناس ومشاركتهم بكل خير، وهذا جيد، على أنه وبالمقابل يستخلص الخير لنفسه، ويستفيد منه وحده، ولا يشارك الناس فيه، ولا يفيض عليهم بما لديه!
ويعرف من أين تؤكل الكتف، ويتقن طرق المحاورة والمراوغة والمداهنة للتعامل مع الناس وإرضائهم بكلام معسول، وسحب البساط من تحتهم، وعن طيب نفس منهم!
وقد يلجأ إلى الغش، ويدفع الرشوة، وقد يتحايل ويظلم؛ مراعاةً لمصالحه الشخصية (فالعدل يُعطِّل سير الأمور، ويحرف النتائج لصالح الآخرين)، بل تفتخر الأم بأن ابنها يتقن تلك الأساليب غير المشروعة، وكلما أتقنها أكثر، ارتفعت منزلته في عالم الرجولة.
5- و"الرجولة" فهم واستيعاب التكنولوجيا الحديثة، وإذا عرف الصبي كيف يستخدم الهاتف المحمول والكمبيوتر بكفاءة عالية، صار رجلاً، وإذا استطاع فك الشفرات والدخول إلى المواقع، لأتى بدليل أوثق على "الرجولة"، وأيضًا إذا تابع التغييرات السريعة في عالم التكنولوجيا وفهمها واستطاع مسايرتها، وإن أرسلتْه أمه إلى السوق فاشترى لها حاجاتها بسعر أقل من المعتاد، صار رجلاً. وإن كان الولد قادرًا على قيادة السيارة بسرعة عالية، والالتفاف بها بين السيارات يمنة ويسرة للنفاد من الشوارع المزدحمة، ومسابقة الناس عند الإشارات المرورية، كان رجلاً، وقد يدخن ويشرب الأركيلة...
ويتفاخرون (بالمظاهر السابقة)، وبعضها يدل على "التهور وعدم النضج"! وبعضها الآخر مظاهر عادية لا تميز الرجل بالذات! ويمكن لأي ولد ذكي بلغ العاشرة القيام بها بنجاح، ويمكن للبنت الفالحة أن تتعلمها.
وباختصار: صفات الرجل (عند العامة) تُطابِق ما يسميه الإسلام: "العقوق"؛ أيْ: إهمال بر الوالدين وترك طاعتهما، وهي "عكس ما أمر به الشارع"، فهل نسمي - نحن الواعين المثقفين، الملتزمين بالدين - هذا رجلاً؟
أنا لا أرى مثل هذا رجلاً، وإن كنت أعترف بأن (القدرة على خوض غمار الحياة، والنجاح في التعامل معها ومع الناس) من مقومات الرجولة، والشاب اليوم يتعلم هذا من الدنيا ويحسنه ويتقنه، ولكنه لا يكفيه، فالإسلام والتقوى والمروءة يطالبونه بمجموعة أخرى من الصفات، وأضرب مثلاً لكل واحدة منها:
• فالإسلام "جعل الأمر شورى"، والشورى تؤخذ من الجميع (بمن فيهم النساء) وفي كل أمر، والرجل (عند العامة) لا يستشير، ويستبد فوقها، ويحقر رأي المرأة
• والتقوى "توجب على الرجل العدل في الناس، والرفق بهم".
• والمروءة "تتطلب تنزيه النفس عن الرذائل والسفاسف"، والرجل الناضج العاقل يربأ بنفسه عن الخداع، ويترفَّع عما بأيدي الناس، محافظًا بذلك على مهابته واحترامه بينهم.
وهذا "المتظاهر بالرجولة" يتمسك بقوله الخاطئ، ويستمر في سلوكه السيِّئ، ويتفاخر بالإصرار على الخطأ، والشرع حبَّب إلينا "العدول عن اليمين" إن كان غيرها خيرًا منها، وفي الحديث: "((من حلف على أمر ورأى غيره خيرًا منه، فليأتِ الذي هو خير))، فكيف بمن تفوَّه بكلمات بسيطة ولم يحلف عليها، ولم يرمِ يمينًا وإنما قال فقط؟! ما الضير "لو عدل عن قوله الخاطئ إلى ما هو أفضل منه"؟
والخلاصة:
من "يَدَّعُونَ الرجولة" يتعاملون مع ذويهم بقسوة وأنانية واستبداد، وأين هذه الصفات القبيحة من الأخلاق الإسلامية (الرحمة، والإيثار، والشورى)؟ وأين هي من "الرجولة"، والرجولة تعني "الخلق السامي الرفيع"
فمن هو "الرجل الحقيقي" إذًا؟ وما هي صفاته؟
"الرجولة" تعني بالدرجة الأولى "النضج والرشد"، و"رجاحة العقل"، و"القدرة على تحمُّل المسؤولية"، وهذه الثلاث أهم الصفات وأعظمها، وأقصد بتحمُّل المسؤولية أن يعرف الشاب واجباته وأن يقوم بها كلها، وأن يُخطِّط لحاضره ولمستقبله بشكل جيِّد
وتلحق هذه الصفاتِ الرئيسيةَ مجموعةُ صفات أخرى ضرورية؛ مثل: (القناعة، الشجاعة، الكرم)، وتلحقها محسِّنات؛ مثل: (التوازن ومعرفة الأولويات).
هذه أهم الصفات المطلوبة في الرجل، وعلى المُربِّين مراعاتها، وصناعة الرجال أمر يحتاج إلى الصبر والدقَّة في التربية والتوجيه، ولو كان سهلاً، لامتلأت الدنيا بالرجال، وما شكونا من قِلَّتهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن