كيف تتجنَّبين العقد النفسية في التربية؟
قرأتُ في الكتب النفسية:
"العقد النفسية تؤثِّر تأثيرًا ضارًّا ومُعوِّقًا لدى المرء: فهي تشلُّ النشاط الوِجداني، وتقف حائلاً بينه وبين التعبير عما يدور في نفسه من انفعالات، وتجعله متقلِّبًا بين الحبِّ والكراهية: فيصبح المصاب مُتقلِّبًا في عواطفه ومزاجه، مما يَصعُب التعامل معه، ويجعل التواصل المريح متعذِّرًا".
فكيف تُجنِّبين صغيرَك هذا المصير؟
1- تفقَّدي طفلَك طول اليوم، وكوني معه رُوحيًّا وفِكريًّا؛ فاهتمي به رضيعًا، ولا تؤخِّري حاجاته الأساسية (طعامه ونومه)؛ لكي يشعر بالاطمئنان والراحة ويَركَن إليك، واحمليه برفق وحنان وضُميه إلى صدرك، واعتني به بنفسك ولا تدعيه لأخواته ولا للخادمات، كوني - وبقدر استطاعتك - وَدُودة وهادئة وسعيدة بخدمته
وقبل بلوغه العامين رافقيه أكثر الأوقات: يلعب أمامك، ويأكل بحضرتك، ويخرج بصحبتك، وقُرْبك منه وكلامك معه لهما أثرٌ كبير على استقراره وهدوئه
وحين يَكبَر قليلاً احتويه وتحملي ما يَصدُر منه، وعبِّري له عن عواطفك باستمرار، ولا تبتعدي عنه فترات طويلة أو تنشغلي كليًّا عنه؛ ليشعر بالأمان، والأمان سيعطيه الثقة بنفسه والقوة في مواجهة الصِّعاب.
حين يكون ابنك مريضًا، متألِّمًا، حزينًا... تتضاعف حاجته إليك، أنت أمه، وإلى حبك ورعايتك واهتمامك، ومن حقِّه عليك أن يجدك، وقوفك إلى جانبه وحمايته من مخاوفه واجب عليك، فلا تُهمليه في هذه اللحظة مهما كانت مشاغلك ومشاكلك، فإن أعرضت عنه انصرف عنك هو الآخر، وانطوى على نفسه، وتجنَّبي أيضًا الرأفة الزائدة التي تجعله - هي الأخرى - هشًّا أمام تقلُّبات الحياة، ولا يستطيع الصراع معها، صغيرك يحتاج إلى العواطف الداعمة المُنتِجة، وليس إلى الميوعة والإفساد والاتكال عليك.
كوني معه في آماله وآلامه، واعرفي معاناته، وهذا مهم ومهم جدًّا، ولا تستهتري بأحزانه؛ لأن همومه بحجم عمره، وعجزه عن "تركيب قِطَع لعبته" قد يعني نهاية العالم بالنسبة له!
وستعرفين آماله وآلامه من تعليقاته وكلامه، واتركيه ليُعبِّر عن نفسه وقت يشاء ولا تكبتيه بقولك: "اسكت أو قُلْ بسرعة"، ولا تهمليه وتتشاغلي عن قوله بالعمل فيشعر بالنَّبذ، فقط ألقي بالاً لكل ملاحظة تسمعينها؛ فإن قال لك ابنك الكبير: "لماذا تطلبين مني دائمًا قضاء الحاجات ولا تطلبينها من أخي؟"، فهذه إشارة "غَيرة"، والغَيرة تتحوَّل إلى عُقْدة، وإذا سألك أحدهم: "لماذا تقولين لي أنا بالذات: أنت بطيء؟"، فهذه إشارة إلى عُقْدة نَقْص قد بدأت تتكوَّن في داخله، وإذا سمعته يقول: "أبي مشغول عني بعمله وأصحابه، وحين أطلب منه شيئًا يقول: فيما بعد"، فهذه إشارة إلى شعوره بالهضم والتهميش
وانتبهي لكلامه، فإن كرَّر على مسامعك خوفًا أو أبدى قلقًا على أمر ما، أرعيه انتباهًا، فما لا تُلقين له بالاً قد يكون ذا شأن كبير، وقد يؤثِّر في صحة ابنك النفسية، فعليك مساعدته على تَجاوُز الأزمة؛ لئلا تُصبح حالة دائمة.
واستشعري "وضْع طفلك" من نظرة أو إيماءة أو إشارة، وفي لَحْن القول، والألفاظ والمعاني التي يُردِّدها، الأحلام التي يراها في نومه أو حتى أحلام اليقظة التي يتكلَّم عنها، طريقته في التعامل مع إخوته، أو من طريقته في اللعب حين يلعب وحيدًا (هل يكون عنيفًا أم ودودًا؟ ما العبارات التي يردِّدها؟ ما اللُّعَب التي يُفضِّلها؟).
افهميه - فقط افهميه - ولا تُلقي عليه المواعظ وهو متأثِّر أو متوتِّر.
الطفل يبكي، يصرخ، يَعترِض، ويَمُر بفترة تأزُّم (تتمثَّل في الطيش مثلاً، وعدم التسامح مع أقرانه)، وكله طبيعي... لكن اللهجة والأسلوب قد تَدُلان على حُزْن عميق وتأثُّر رهيب وشعور بالظلم والقهر... فإذا شعرتِ بذلك فمعناه: "ابنك يَمُر بحالة نفسيَّة مزريَّة"، ولكنها مؤقَّتة، وينبغي مساعدته على الفور، بسماع شَكاته، والمبادرة إلى إزالتها
ابحثي عن سبب الفعل (غَيرة، عِناد، شعور بالكَبْت)، وعالجيه قبل أن يتحوَّل إلى عقدة، واعرفي ماذا يريد منك ابنك، وما الذي يُشبِع عواطفَه ويرضيه، وصَفِّي أحزانه أولاً بأول، وحُلِّي مشكلاته؛ لئلا ينشأ حقودًا، ولا تتكلَّمي عن الناس أمامه بحقد وغضب، فيسخط عليهم ويَكْره معاشرتهم.
وبعض العوارض تكون بمثابة إشارات تحذيرية للأم؛ فمحاولة الصغير لَفْت انتباهك بالحركات والكلام وكثرة المشاغبة تنبيه لك وتحذير مُبكِّر عن معاناته، والتمارض دليل لا ينبغي إهماله، وكذلك الانزواء والانطواء، وحتى الخجل الزائد - كلها دليل على منطقة ضَعْف في نفسيته، فتجنَّبيها تارة، وداويها تارة أخرى، أقصد تجاهَلي وضْعه في بعض المرات، وتصرَّفي معه بشكل طبيعي وشجِّعيه على الإقدام في مرات أخرى.
وإذا استيقظ في الليل مذعورًا أو شكا من الكوابيس، فهي دَلالات وإشارات... فاجلسي على طرَف سريره، واقرئي له المعوِّذات، واستعيني بالدعاء، وطمئنيه بالكلام الهادئ اللطيف، وهذا يمسح همومَه، ويُزيل جروحه، ويُقوِّي علاقتَك به، فيستمد منك القوة والأمان.
ولا تجعلي لكل واحد من أولادك الذكور غرفة نوم مُنفصِلة، وإنما ينامون كلهم معًا في غرفة واحدة، فهذا يبعث على الاطمئنان، ويقوي علاقة الإخوة بعضهم ببعض
وإذا وصلت الأمور لأكثر من ذلك كان الوضع أخطر؛ كالتخريب والإفساد في المتاع، وأيضًا في قَضْم الأظفار، والتأتأة، أو ترديده لبعض الجُمل بشكل دائم: "أنا سيئ"، "أنا لا أستحق الحب"، "أنا عديم الفائدة"، "ليس بإمكاني عمل شيء".
وكل ما سبق بداية وبذور لعقدة نفسيَّة كامنة، وإن لم تُعالَج في حينها استفحلت وصَعُب علاجها، وقد يَستحيل، فانتبهي لكل سلوك خاطئ وكل عصبية زائدة، وعالجي الموقف قبل أن يتفاقم.
2- كوني واضحةً في كل توجيهاتك، ولا تكوني متردِّدة ولا فوضوية في طلباتك وأوامرك؛ لئلا يتحيَّر ابنك، وكوني أمًّا واضحة تعرف ماذا تريد من صغيرها، ويفهمها ولدها، ولهجة حديثك مهمة جدًّا ليعرف ماذا تريدين: عتاب، غضب..
بَيِّني لصغيرك ما ينبغي أن يكون عليه في نقاط قليلة مفهومة؛ ليتسنَّى للصبي اتباعها والحرص عليها، وكرِّريها كلما احتاج الأمر؛ فالصغير يلهو وينسى، وعلِّميه كلَّ الآداب في وقتها المناسب (عند الطعام: "كُلْ بيمينِك"، عند زيارة الأقرباء: "اقرعِ الباب قبل الدخول"...)، وينبغي أن تكون قوانين البيت ثابتة وواضحة للصغير، والممنوع ممنوع في كل يوم وفي كل وقت، وعليه الالتزام بالأوامر القطعيَّة ومن دون تَردُّد، وما يُزعِجك اليوم هو نفسه ما يُزعِجك أمس وغدًا.
ولأوضِّح أكثر أقول: لا تسمحي لمزاجك بسوقك إلى تشتيت ابنك، بحيث لو كنتِ في مِزاج جيد سكتِّ عن الخطأ، وإذا كنت غاضبة نفَّستِ عن غِلَّك بضرب الصغير ومعاقبته، فتلومينه على الشيء اليوم وتتركين اللوم غدًا، أو تغضبين من صنيعه هذه اللحظة، وتبتسمين له لو فَعَلها بعد ساعات، هذه ذبذبة تُحيِّر الصغيرَ، فلا يعرف حدوده، ويَظنُّك هازلة أو ذات انفصام بالشخصية، مثلاً: لا تسمحي باللعب بأدوات الزينة دائمًا وأبدًا، واجعليها قاعدة لا يَخرِمها أي شيء، وإذا استمرَّ الأمر على نَفْس الوتيرة يستجيب الصغير، ويفهم ويمتنع عن خَرْق القانون.
ومثلها لو قلت شيئًا أو أصدرت أمرًا، وقال زوجك عكسه وخالفك، فذلك يُربِك الطفلَ، ولا يدري لمن يستجيب فيكما
وكلما استجاب لأوامرك أو التزم بقوانين البيت والمدرسة شجِّعيه بالكلام الجميل، فقولي: جيد، أو ممتاز أو رائع أو ظريف... وأكثري من هذه الكلمات اللطيفة في المواضع المناسبة ليَفهَم ويَمتثِل
الزمي الهدوء قَدْر الإمكان في تفاعلك وردود فعلك، ولا تكوني أمًّا عصبية تَصرُخ فجأة وتثور (لكل تَصرُّف) فتُفزِع ولدها، وابنك سيُفاجأ بغضبك، ولن يُدرِك أنه أخطأ! فضلاً عن تقدير حجم الخطأ؛ (لأنه صغير وجاهل، وقد يُغريه فضوله فينساق مع رغباته وينسى توجيهاتك)، فإذا أخطأ ذكِّريه بهدوء ليَستوعِب ويستجيب، وتجاوزي عن هفواته وأخطائه الصغيرة، إن أفسد أمرًا بلا قصد، أو قال كلمة غير مناسبة وهو لاَهٍ
وإذا أقدم على أمر لا يُرضيك عاتِبِيه برِفق وعلى الفور.
ولكِ الحق في الغضب والصراخ حين يَستحقُّ الوضع، أُكرِّر حين يَستحِقُّ الوضع، (وليكن ذلك قليلاً ونادرًا)، عندها اغضبي، وغضبك هنا له فائدتان: فهو يُنفِّس عنك من جهة، ويردع السلوكَ السيئ من جهة أخرى، ولكن لا تجعلي ابنك (مفشة) لهمومك، وقدِّمي لغضبك بحيث يتجهَّم وجهك، وتتركَّز نظرتك، ثم يرتفع صوتك شيئًا فشيئًا، ولا تنفجري فجأة بالصراخ.
واعتذري منه إن غلطت بحقه؛ ذلك ليعلم أنك لست مُنزَّهة عن العيوب، وتُخطئين كما يخطئ فلا يُقدِّسك، وإذا شعر ببشرِيَّتِك تقبَّل توجيهاتك وإن أخطأت، ورضي باتباع نصائحك ونفَّذها ولو أهملتها أنت، وسوف يحبك ويُقدِّرك ولو قصَّرت، ولن تَخسري عواطفه واحترامه أبدًا
والخلاصة:
ربِّي ولدَك وعاقبيه، ولكن حافظي خلال ذلك على "ثِقَته بنفسه"، والثقة ضرورية جدًّا للرجل لتُعطيه الأمانَ والاستقرارَ، فيقوم بواجباته ويُشيع الطمأنينة على من حوله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن