ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم.. ميلاد أمَة..
ليس هناك إنسان على سطح البسيطة، لا من الأنبياء والمرسلين، ولا من العظماء والفاتحيتن من حفظ التاريخ لنا سيرته، غير نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أنّ هذا الحفظ كان أمراً إلهياً ليتحقق قول الله سبحانه:﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾، ولا بد للاقتداء من معرفة أحوال وأقوال المقتدى به، ولذلك كانت حياة نبينا صلى الله عليه وسلم كتاباً مفتوحاً يقرؤه كل إنسان حتى في أدقّ أموره الخاصة صلى الله عليه وسلم من الميلاد حتى الوفاة.
وحيث إني أكتب هذه الكلمات في ذكرى ميلاد هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم ، فلن أتعرض للناحية الفقهية التي تتعلق بتخصيص هذا اليوم بعبادة مخصوصة هل تجوز أم لا، ذلك أن هذه الجزئية الخلاف فيها منشؤه الخلاف حول (هل يجوز إجراء القياس في الأمور التعبدية) فمن قال بالجواز قاس هذه الذكرى على حديث أبي قتادة الصحيح وفيه: أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ قال:"ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل عليّ فيه" فجعلوا العلّة التي نصَ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه للأعرابي على جواز الصيام، هي مناط الحكم، وقاسوا عليها القيام بعبادة مخصوصة في نفس الذكرى ومنها الاحتفال. أما الذين لم يقولوا بالقياس في العبادات- وغالبهم من أهل الأثر- قالوا لا يجوز. والأمر كما ترى خلافي ولا إنكار فيه.
ولكنني أحببت أن أكتب في جزئية طالما استوقفني عندها أمر، هذه الجزئية تتعلق في علامات نبوته صلى الله عليه وسلم حتى قبل ميلاده، أو ما يعرف بالإرهاصات.
فقد أخرج البيهقي فيفي الدلائل بسنده عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إني عبد الله وخاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك. دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمّي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين، وإن أمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام". وفي بعض الروايات ما يفيد أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم جاء ردّاً على طلب من قبل أصحابه أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك.
إذن هذه مقدمات الولادة، وولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني ولادة أمة بكاملها، أمة جاء في بعض آثار الصيام أن موسى عليه السلام تمنى أن يكون منها لما لها من الفضائل، إذ فضلها على سائر الأمم كفضل نبيها صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء. ولكن هذه الأمة لها خصائص وعلامات تتميز بها، ومن دونها تفقد الدور الريادي التي اضطلعها الله به في الوجود بقوله تعالى:﴿كنتم خير أمةﹴ أنزلت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ وبقوله تعالى:﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾ هذه الوسطية لا تعني أنصاف الحلول وإنما تعني الخيرية والتفضل على سائر الأمم. فمن أين تأتي هذه الخيرية؟!!... فعودٌ إلى الحديث.
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث علامات لنبوته وميلاده. العلامة الأولى دعوة إبراهيم عليه السلام، والثانية بشرى عيسى عليه السلام، والثالثة رؤيا والدته.
أما العلامة الأولى فهي قول الله تعالى في سورة البقرة على لسان إبراهيم عليه السلام وهو يبني الكعبة مع ولده إسماعيل عليه السلام فيقول:﴿ربَنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلِمهم الكتاب والحكمة، ويزكّيهم، إنك أنت العزيز الحكيم﴾.
هذه هي دعوة إبراهيم عليه السلام، والتي وافقت قضاء الله، فاستجاب لأبي الأنبياء، وهو ما امتنّ به على هذه الأمة بقوله تعالى:﴿هو الذي بعث في الأمِيّين رسولاً منهم يتلو عليه آياته ويزكّيهم ويعلِمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالﹴ مبين﴾ غير أن الله سبحانه قد رتّب مراحل التربية والدعوة التي يضطلع بها هذا النبي في أمته: تلاوة الآيات، ثم التزكية وتطهير النفس، ثم التعلم. فهذه هي الخطوط العريضة لمهمة هذا النبي المبعوث لآخر الأمم، ولا بد أن تكون هي نفسها الخطوط العريضة لمن يرث دعوته إذ:"العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورَثوا هذا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍ وافر". ومن قواعد الميراث أن الوارث يأخذ نصيباً مقدَراً من كل أنواع التَركة المختلفة الأعيان، وكذلك العالم يجب أن يأخذ نصيبه من كل مراحل تركة النبوة، وعندما نقول: إنّ هذه المراحل الثلاث هي الخطوط العريضة التي تتسم بها الدعوة، فهذا يعني أنها الخطوط العريضة التي ترسم المنهج التربوي لأمة الإجابة التي أناط الله تعالى بها حمل ميراث النبوة، ويوم لا تتمثل هذه الأسس في دعوة حملة الميراث فهذا يعني أن الدعاة بعيدون عن حقيقة الإرث النبوي. وبالتالي فإن الأمّة ستنحرف في مسارها إلى الله، وإن لم ترجع قبل فوات الأوان فسوف تصيبها سنّة اله التي لا تتبدل ولا تتغير:﴿وإن تتولَوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾. فوجود هذه الأمة ضروري من الناحية الشرعية ومن الناحية الإنسانية، للاضطلاع بالخلافة في الأرض وإلا لم يستبدل الله تعالى بالمتخاذلين غيرهم بل كان يكفي- والله على كل شيء قدير- أن يهلك الله الجميع، أو يهدي الجميع، ولكنها سنّته في خلقه سبحانه:﴿ولن تجد لسنّة الله تبديلا﴾.
وهذه الضرورة تشهد لها الأوضاع الدينية في العالم، قبل الدنيوية، فهذا عيسى عليه السلام يبشِر بخاتم الأنبياء والمرسلين- وهذه البشارة هي العلامة الثانية- كما قال تعالى عنه:﴿ومبشِراً برسولﹴ يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾ وقد جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل (متّى) ما يعتبر إشارة إلى ذلك وهو ما قيل عن المسيح عليه السلام:"لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضَض ومن سقط هو عليه يسحقه". وهذه العبارة جاءت خاتمة لمثلﹴ ضرب لهم في قانون استبدال الأمم. وهذا المثل هو ما يلي:"كان إنسان ربُ بيت قد غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجاً وسلّمه إلى كرّامين وسافر. ولمّا قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرّامين ليأخذ ثماره. فأخذ الكرّامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، ثم أرسل إليهم ابنه أخيراً قائلاً: إنهم يهابون ابني!! فلما رأى الكرّامون الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلمّوا نقتله ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه (!!)، فمتى جاء صاحب الكرم فماذا يفعل أولئك الكرّامون؟.. قالوا له: إنه يهلك أولئك الأردياء هلاكاً رديئاً ويسلِم الكرم إلى كرّامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها.. قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أنّ الحجر الذي رفضه البنّاؤون قد صار رأس الزاوية؟... لذلك أقول لكم إنّ ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره"..ا.هـ. هذا المثل لخِص فيه تاريخ الأنبياء والمرسلين جميعاً. فالكرم هو الدنيا والكرّامون العاملون فيه هم الجنس البشري الكادح في دنياه، والثمرات التي يريد صاحب الكرم أن يحصدها هي ثمرات الفضيلة والخير والتقوى، والخدم الموفدون من صاحب الكرم إلى الكرامين هم الرسل والأنبياء. ولما جاءهم المسيح عليه السلام بعد إعراضهم عن الرسل والأنبياء فغدروا به وأنكروه عوقبوا بتسليم الكرم إلى كرامين آخرين ونزع ملكوت الله منهم لتعطاه الأمة الأخرى الموعودة بالبركة التي هي أمة إسماعيل ونبيها العظيم محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام".
أما العلامة الثالثة فهي تتعلق بدعوته صلى الله عليه وسلم ، فكونه ولد في مكة وترى أمُه نوراً تضاء له القصور في الشام فهذا يعني أولاً: عالمية هذه الدعوة، وثانياً: ظهورها على سائر الأمم، هذه العالمية تأكدت منذ اليوم الأول للدعوة من الأشخاص الذين آمنوا بها: ورقة بن نوفل (أول من أسلم من أهل الكتاب)، خديجة بنت خويلد (أول من أسلم من النساء)، أبو بكر الصديق (أول من أسلم من المقدَمين في قومهم)، صهيب الرومي (أول من أسلم من الروم)، بلال الحبشي (أول من أسلم من العبيد)، سلمان الفارسي (أول من أسلم من بلاد فارس).
هذا التنوُع في قوميات المنتسبين إلى الدعوة الجديدة، ينبئ منذ اللحظة الأولى عن نوعية هذه الدعوة التي أرسل الله تعالى الداعي إليها ﴿رحمة للعالمين﴾.
فليست دعوة عربية محضة، وإن كان جمع العرب كان مقدمة لظهورها، إنها دعوة الله تعالى إلى العالمين. وهذه العالمية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا التزم أتباع هذه الدعوة بمنهجها الذي رسمه نبيُها صلى الله عليه وسلم ، وأيّ استبدال لمناهج غريبة عنها يخلع عليها لبوس الإسلام بمناهجها الخاصة بها: فإنه سيؤدي إلى تعطيل هذه العالمية.
أما الظهور، فهو أمر حتمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عنه وذلك في الحديث الصحيح:"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وأوتيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها.." وغيره من الأحاديث والتي تبشر بفتح حتى روما عاصمة الكثلكة..
هذا الظهور يحصل إن توافرت أسبابه.. فبنو إسرائيل- كما جاء في سورة المائدة- عندما خرج بهم موسى عليه السلام من مصر وطلب منهم تنفيذ وعد الله بدخول بيت المقدس، تقاعسوا وجبنوا، فعاقبهم الله تعالى بالتّيه والضياع أربعين سنة، حتى استبدل الله تعالى بالجيل المتخاذل آخر مقداماً فتح الله على يديه بيت المقدس، فوعد الله بقي قائماً ولكنه أخّره سبحانه لتتوافر أسبابه.
فهلاّ عقلنا الدرس في ميلاد الأمم وهلاكها؟!!... إن أمةً لا تستقرئ تاريخها لن تبني حاضرها وبالتالي لن تولد..
العدد الخامس عشر –ربيع الأول 1417 /تموز وآب 1996م
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن