ساحتنا الإسلامية بين الشباب والشيوخ
"لقد فشلنا في البناء على القيم العميقة التي ظهرت أثناء الثورة؛ وبدلاً من أن نأخذ الوقت اللازم في المرحلة الانتقالية، اخترنا إيجاد حلول سياسية سطحية"، رأيٌ لأحد الشباب من حركة الإخوان المسلمين في مصر ينتقد فيه أداء المسؤولين الكبار في قيادة مرحلة ما بعد الثورة، ورد في دراسة مترجمة نشرها "مركز كارنيغي للشرق الأوسط "صدرت في تموز 2015 بعنوان: "جماعة الإخوان المسلمين في مصر: ضغوط غير مسبوقة ومسار مجهول" لـ ناثان براون (باحث في السياسة العربية وأستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن)، وميشيل دنّ (باحثة أولى في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط).
وهو نموذج لما يحدث في ساحتنا الإسلامية التي تشهد حراكاً داخلياً قِوامه اختلاف وجهات النظر بين "الشباب" و"الشيوخ" سواء من المنتسبين للحركات الإسلامية والمحسوبين عليها والمناصرين لها.. أو حتى من بعض مَن كانوا داخلها ثم انفصلوا عنها لأسباب مختلفة.
ما أعتبره ظاهرة صحية (إذا ما توافرت شروطها) يفرضها السياق الطبيعي لتفاعل الجيل مع معطيات عصره، يغذيه مقدار ما يتوفر له من شباب يرى في نفسه القدرة على التغيير والتجديد في الأساليب والوسائل وآليات العمل المعتمدة، وأحياناً في بعض السياسات والاستراتيجيات... وهو يبقى كذلك ما لم يخرج عن مساره، إما بتعنّت الشيوخ أو بتطاول الشباب وتغريده خارج السرب...
ففي سياق مطالبات الشباب بتغييرٍ ما، وفي معرض نقده لموقف أو أسلوب، قد يجابَهون بردود أفعال عنيفة متّهِمة إياهم بصدورهم عن قلة وعي وخبرة، وبتخطيهم لحدود الاحترام ولأدب الخلاف، وبتنكّرهم للجماعة التي ربّتهم...
وقد يتمادى الشباب فعلاً أثناء تقديمه لوجهة نظره، وقد يستكبر معتبراً أنه الأفهم، وأن ذلك الجيل قد تخطاه الزمن بكل ما لديه من إرث تاريخي وتراكم خبرات..
وبين الفريقين تقف فئات إما مشدوهة أو منتقدة أو مهاجِمة أو متشفِّية مصطادة في الماء العَكِر.. وقليل مَن يقف مصوّباً متفهِّماً ساعياً لوضع الخلاف على السكّة الصحيحة.
ولقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير جداً في بروز هذه الظاهرة والتشجيع عليها وتكريسها؛ فبعد أن كانت محدودة ضمن الأُطر والأروقة الضيّقة، وغالباً لم يكن ليعلم بهاحتى أبناء الصف الواحد.. فإذا بها تتسع وتصبح أكثر انتشاراً.
ولعل أبرز ما يكون موضع نقاش وسِجالات: مواقف الحركات الإسلامية من قضايا الشأن العام؛ فمِن متّهم لها بالانعزال والتقوقع والإخفاق في التفاعل مع هموم الناس ومطالبهم المحقّة، أو مبرِّر لهذه المواقف.. ومن مغالٍ في التقليل من فاعلية هذه الحركات، أو مبالغ في الرد والدفاع..
مثاله ما حصل أثناء "أزمة النفايات" في بيروت، عندما قاد الشباب التحرك الشعبي الذي حمل عنوان "طلعت ريحتكم" واتسعت دائرة مطالبه لتشمل المياه والكهرباء ومختلف مظاهر الفساد في الدولة.. في هذا التحرك اختلط الأمر بين المطالب التي يؤيدها الجميع وبين الأهداف الحزبية التي انكشفت للجميع.. بين إدارة هذا التحرك الشبابية، وبين الأيادي الحزبية القذرة التي حرّكته باسم الشباب، وسَعت إلى تخريبه.. في هذا الخضم لوحظ غياب واضح للجماعات الإسلامية، ولقد كانت لها مبرراتها المعتَبَرة التي لم تُقنع الكثير من
الشباب، ودار نقاش على صفحات الفيسبوك، وكان التراشق وكان التخطي لحدود الاحترام والأدب.. وأيضاً كان عدم الاستيعاب وعدم الاحتواء بالشكل المطلوب...
أعتقد أن من حق الناس والشباب منهم خاصة مساءلة الجماعات الإسلامية عن موقفها ودورها في مثل هذه القضايا (وقد كانت لبعضها إنجازات خجولة في هذا الملف)، فهم لأملهم بها ينتظرون منها الكثير، ومن حقهم أن ينتقدوا بهدف النصح والتصويب، وليس بهدف القدح والذم والتشكيك؛ فالنقد البنّاء إذا ما توافرت شروطه وآدابه وأهدافه من الإخلاص والموضوعية والاحترام والنصح والتوعية، واعتباراته من التوقيت والظرف وتغليب المصلحة.. فهو رقي ونضج من الناقد، وتقبُّله شفافية وشجاعة من القيادة.. بل قد يحقق للعمل الحركي نوعاً من التوازن بين نظرة القيادة ورؤى الأتباع؛ خاصة مَن يملكون الأهلية منهم لترشيد المسار.
إذاً، على الشيوخ – أو القيادة – إفساح المجال لتقبُّل الآراء على اختلافها وتنوُّعها بكثير من الاستيعاب، وتصويب آراء الشباب برفق لا يشوبه تسفيه مهما اتسمت بالسطحية أو الخطأ، بل ينبغي أن نستخدم مع المخالفين لآرائنا العبارات والمصطلحات التي تمهّد عقولهم وقلوبهم لسماعنا، لا تلك التي تستفزّهم وتحرّك مكامن العصبية والغضب عندهم فتصدّهم عنا قبل أن نوصل لهم فكرتنا ونقدم لهم حُجتنا.. هذا الجيل هو مَن سيقود الساحة في قابل الأيام؛ وعلينا أن نمنحه الثقة بعد توعيته وتمكينه.
الشيوخ بما لديهم من حكمة وخبرة متراكمة، والشباب بما لديهم من حيوية ومواكبة ورؤية متجددة ونظرة مختلفة؛ بتعاونهم الحقيقي الفعّال يستطيعون إدارة دفّة الأمور وقيادة الساحة بطريقة أفضل مما هي عليه الآن.
يقول الأنصاري رحمه الله: "وإن حركةً تعزل نفسها عن النقد الذاتي الصادر من الأفراد والمؤسسات لهي حركةٌ قد حكمت على نفسها بالخروج من حركية التاريخ المتجددة". حروف تُكتب بماء الذهب.. لأنها حتمية تاريخية وضرورة واقعية، وفعلٌ تفرضه مصلحة الساحة الإسلامية... علينا أن نروّج له، بل نؤسس له وندرّب عليه ليصبح فعلاً حضارياً يتسم بالرقي والإثمار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن