جولة بين القبور
كتب بواسطة بقلم: منال المغربي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1128 مشاهدة
عندما يَضيق الصدر ويصبح حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء من طوارق الهموم والغموم والكروب يتساءل المرء أحياناً: أين المفر؟
ومتى الخلاص؟
الجواب وجدتُه في المقبرة...
نعم المقبرة...
فقديماً قال أحد الصالحين: «إنْ ضاقت بكم الصدور فزوروا القبور».
فأيُّ هَمّ وأيّ كرب وأي بلاء أعظم وأشدّ من الموت وأهواله؟
لذا حزمتُ أمري، وقررتُ الذهاب إلى هناك...
عند مدخل مقبرة الشهداء في بيروت صادفتُ امرأة مسنّة تبيع (الآس)... لا أدري لِمَ في تلك اللحظة تَجسّد أمام ناظرَيّ الإمامُ الأَوزاعي عندما أتى إلى بيروت مرابِطاً مع أهله وأولاده، وتذكرتُ القصة التي قرأتها عنه مرة في أحد الكتب(1)، يقول: «وأعجبتني بيروت... أني مررتُ بقبورها، فإذا امرأة سوداء، فقلت لها: أين العمارة يا هنتاه»(2)؟ فقالت: إنْ أردتَ العمارة فهي هذه، وأشارت إلى القبور، وإن كنت تريد الخراب فأمامك، وأشارت إلى البلد، فعزمتُ الإقامة بها».
ودخلتُ العمارة (المقبرة)... صَمتٌ مَهيب مُوحش... أحياناً تُصاب النفس بالرهبة عندما تسمع حفيف الأشجار أو وقع خطوات العاملين هناك فتخالها همسات وخطوات الموتى..
لم تقتصر زيارتي هذه المرة على الوقوف عند قبر أبي وجدّتي وخالتي ومَن أعرف من أموات المسلمين والترحّم عليهم والدّعاء لهم، بل أخذتُ أتجوّل في أرجاء المقبرة... متأملة.. معتبرة.. متدبرة...
«سبحان مَن قهر عباده بالموت» عبارة أخذتُ أردِّدها بيني وبين نفسي وأنا أنظر إلى أسماء سكّان القبور... أقرأ تواريخ وَفَياتهم.. وأنسج في مخيلتي كيف كانوا في الحياة الدنيا...
وكلما تجاوزتُ قبراً تساءلت: أَشقيٌّ ساكنه أم سعيد؟
هنا قبر طفل صغير... حسدتُه... نعم حسدته... دخل إلى الدنيا خفيف الحمل وخرج منها كذلك.
وهناك قبر تبكي بجواره حسناء سافرة كاسية عارية لم يكن لها موت المُحِبّ ولا وحشة اللحد واعظاً أو زاجراً.
وأمامي قبرٌ كُتب عليه: الشهيد المظلوم.
وعن يساري قبر عروس... وبجوارها قبر عجوز.
ومن خلفي قبر شاب تزيّن صورته الكبيرة مقدمة القبر، يبدو في الصورة كأنه حَيٌّ يُرزق وَينطِق..
وقبور اكتظ الواحد منها بساكنيه...
من بعيد لمحتُ قبر السياسي البارز الذي توفي من عامين..
على مدخل المقبرة مدافن خاصة، أُحيطت بأسوار ووضعت على أبوابها الأقفال، تخصّ عائلات بيروتية عريقة... بعضها ما زالت أرضاً بوراً لم تستقبل ساكنيها بعد!
وبعيداً في أقصى المقبرة مدافن جماعية للفقراء، لا تحوي أسماء ولا تواريخ وكأنّ سكّانها ما كانوا يوماً أحياءً يُرزقون على وجه البسيطة...
رغم هذا التفاوت في عمارة القبور؛ فمنها الفخم ومنها البسيط الذي يدل على المستوى الاجتماعي الذي كان عليه أصحابها في الدنيا؛ إلا أن الكلّ توارى وتساوى تحت التراب... يلاقي كل منهم ما قدّم وأخّر في الدنيا من خير وشرّ...
سبحان الله كم تحوي بطون القبور من أخبار وحوداث...
أخبار لو عقَلها الناس لما أكلوا وما شربوا وما ناموا ولا تناكحوا ولا تَناسلوا.
ضمة قبر.. كسر أضلاع... سؤال منكر ونكير...
صُراخ وعذاب أليم.. أو ضَحِك ونعيم مقيم...
هذه هي أخبار القبور:
ناديتُ سكان القبور فأُسكتوا
فأجابني عن صمتهم تُربُ الحصى
قالت: أتدري ما صنعتُ بساكني
مزقتُ جثماناً وخرّقتُ الكسا
وَحَـشْوتُ أعيُنَهم تراباً بعدما
كانت تأذّى باليسير من القذا
أمّا العظام فإنني مزقتها
حتى تباينت المفاصل والشوى
قطعت ذا من ذا ومن هذا كذا
فتركتها مما يطول بها البلى(3)
هذا هو حديث تراب القبور؛ أما لو أُذن لسكّانها بالكلام لقالوا: «إنّ خيرَ الزادِ التقوى... إنَّ خير الزاد التقوى»(4).
بعد هذه الجولة كان لا بدّ لغيوم الهموم أن تنقشع... وللصدر أن ينشرح وينفسح... فلقد دخلت إلى العمارة (المقبرة) وكأني في جنازة... أحمل على كتفيّ نعشاً يحوي همومي وأحزاني وأكداري... فدفنتُها هناك وكبّرت عليها أربعاً... وخرجتُ منها وأنا على ثقة أنني سأعود إليها يوماً ولن أخرج منها، وسأمكث فيها إلى أن يشاء الله وسأكون المحمولة والمَزورة..
ودخلتُ من جديد إلى دنيا الخراب... ضجيج يملأ الأرجاء... أبواق سيارات... موسيقى تصدح من إحدى العمارات المواجهة للمقبرة رغم أن الأذان يُرفع... أسواق عامرة (خرِبة)... بيع وشراء ... أولاد يلعبون... دُور تُبنى فوق الأرض تتطاول في البنيان... حركة لا تهدأ... مال وبنون ومكاره وشهوات وفتن كقطع الليل المظلم فوق أرضٍ مآلها خراب، خلقها الله لنا يُعصى عليها ويُطاع...
طوال الطريق لم تكفّ عيناي عن مراقبة الناس في حركاتهم وضجيجهم وانغماسهم في دنيا اللهو واللعب والغفلة.
فمتى يستيقظون؟ متى ينتبهون؟ ومتى يعملون؟ ومتى يتزوّدون؟ ما من مجيب...
سبحان الله... صدق من قال: «الناس نيام: إذا ماتوا انتبهوا، وإذا انتبهوا نَدِموا، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم»(5).
ـــــــــــــــــــــ
هوامش:
1. البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله.
2. يا هنتاه، أي: يا هذه.
3. هذه الأبيات تُنسب إلى سيدنا الحسين رضي الله عنه، قالها عندما زار مقابر الشهداء بالبقيع، ولقد أوردها الإمام ابن كثير رحمه الله في تاريخه: البداية والنهاية.
4. رُوي في كتاب نهج البلاغة أن الإمام عليّاً رضي الله عنه لما رجع من موقعة صِفّين وأشرف على القبور قال: «يا أهل الديار المُوحشة والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوَحشة، أنتم لنا فَرَط سابق، ونحن لكم تابع لاحق. أما الدُّور فقد سُكنت، وأما الأزواج فقد نُكحت، وأما الأموال فقد قُسمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟»، ثم التفت إلى أصحابه فقال: «أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى».
5. ذكر الشيخ إسماعيل العجلوني الشافعي في كتابه: «كشف الخفاء ومُزيل الإلباس عما اشتُهر من الأحاديث على ألسنة الناس» أنه من قول الإمام عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه، لكن عزاه الشعراني في الطبقات لسهل التُّسْتُري.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة