داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
الصحابة في لبنان (5) خيول الصحابة عند مصفاة البِدّاوي
كتب بواسطة يوسف القادري
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1016 مشاهدة
استقبلَتْ «غرفة العَمَليات» أَحَد المعاهدين النصارى المتعاونين مع مخابرات الجيش الإسلامي، فأفادهم بأن بين طرابلس وبلدة عرقة مرفأ يسمى «مَرْج السلسلة» تُمَدُّ عليه سلسلة لِصدّ الإنزالات البحرية من السفن المعادية (موضع مصفاة البداوي اليوم)، وبجواره حِصن أبي العدس وصوامع، بأَحَدها راهب جاوز المئة.
وأفادهم المُعاهد بأنه يقام قرب الدَّير سوقٌ سنوي عظيمٌ بَعْد عِيْد الشعانين، يَحْضره الروم والنصارى وقِبط مصر، وتَقْدم إليه السفن من كل مكان. وأضاف المعاهد قائلاً لأبي عبيدة: وما كنتُ أعهد أنّ لهذا السوق حامية من الروم إلا أن يكون الآن لخوفهم منكم، ولو سار إلى الدير والسوق أدنى المسلمين لرَجوْت لهم الفتح إن شاء الله!
عَرض أبو عبيدة الأمر للشورى: أيها الناس أيكم يَهَب نفسَه لله تعالى وينطلق مع جيش أبعثه فتحاً للمسلمين؟ فانبرى من وسط الناس غلام شاب قد نَبَتَ شَعرُ عارضَيه واخضرَّ شاربُه، مجيباً: «أنا أوّل مِن يسير مع البعث يا أمين الأمة!». يريد بذلك رِضا الله والثأر من الروم الذين قتلوا أباه يوم مؤتة! وتنفيذ وَعِيد طالَما أطلقه لأمه: «لئن عشت لآخذن بثأر أبي»! إنه عبد الله بن جعفر الطيّار رضي الله عنهما.
فَرِح أبو عبيدة به وجَعَل يختار له رجالاً وفرساناً شكّل منهم كتيبة فرسانُها خمسمئة، بينهم أبو ذر الغفاري وعبد الله بن أبي أَوْفى وعامر بن ربيعة وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن ثعلبة وعُقْبة بن عبد الله السلمي وواثلة بن الأسقع وسهل بن سعد وعبد الله بن بِشْر والسائب بن يزيد وغيرهم من السادات وممن شَهِد بدراً رضي الله عنهم أجمعين! فأمّر عليهم عبدَ الله وعَقَد له راية سوداء. ووقَّت له الوقعة بأول قيام السوق.
انطلقت الكتيبة إلى مرج السلسلة (البداوي) سنة 13هـ (633م)، وسار «المعاهد» معهم دليلاً حتى آخر محطة، ثم سبقهم يستكشف لهم الطريق، وأبطأ عليهم فقلق المسلمون وخافوا من المكيدة، وإذا بصاحبهم قد أقبل بما لم يكن في الحسبان!
قال: «يا أصحاب محمد! وحقِّ المسيح ابن مريم إني لا أَكْذِبُكم فيما أحدّثكم به. وإني رجوت لكم الغنيمة وقد حال بينكم وبينها ماء». وأخبرَهم أن صاحب طرابلس «العميل» للروم المحتلين زوّج ابنته لأحد ملوكهم، وقد أتَوا إلى دَير أبي العدس ليأخذوا القربان من الراهب ومعهم المدعوّون من القُسُس والرهبان والملوك والبطارقة، وحامية عسكرية مرافقة من فرسان الروم في عُدّتهم وعديدهم! وفي السوق أكثر من عشرين ألفاً، بينهم خمسة آلاف بسلاحه وفَرَسه!
عقد ابن جعفر مجلس الشورى ومال أفراد الكتيبة إلى الانسحاب؛ فليس هناك ما يُلزمهم بهذا التأقيت بالذات، ولكن أَبى القائد الشاب إلا التقدم قائلاً: «مَن ساعدني فقد وقع أجره على الله، ومَن رَجع فلا عَتَب عليه!» فلما سمعوا ذلك أجابوه: افعل ما تريد فما ينفع حذر من قدر! ففرح بإجابتهم.
قسّمهم عبد الله إلى خمس سرايا (كراديس)، على كل سرية نقيب، ليأخذوا السوق من نواحيه... وطلع عبد الله على القوم فوجدهم كالنمل كثرة، وقد أَحْدَق بالدير خَلْقٌ كثير، والراهب مُطِلٌّ برأسه من الدير يعلمهم مَعالم ملّتهم.
صاح عبد الله: يا أصحاب رسول الله (ص)! إن كان الفتح فالاجتماع تحت صومعة الراهب، وإن كان غير ذلك فهو وَعْدنا: الجنة، ونلتقي عند حوض رسول الله (ص) مع الصحابة.
وما إنْ بدأ الهجوم حتى سارع الروم إلى سلاحهم وثار الغبار، فما كان يعرف بعضُهم بعضًا إلا بالتهليل والتكبير. ثم طوّقهم الروم وقصدوا الراية التي يحملها ابن جعفر، فالتجأ بأصحابه إلى موضع يحتمون به، وطال القتال حتى جَنّ الليل ووصل إمداد خالد بن الوليد وضِرار بن الأزور، فتفرّق الروم عن ابن جعفر وأصحابه.
ثم أتى المسلمون الدير حيث جنود الروم والنيران مشتعلة وأمامهم بِطْريقهم وهو يزأر زئير الأسد يصيح بكلمة الكفر ويحمل حملات الشجعان، فبارزه ضِرار بن الأزور حتى قتله.
وأما خالد رضي الله عنه فطارد الهاربين إلى نهرٍ كان بينهم وبين طرابلس، يعرف الروم مَخاوِضه، فوقف خالد ورجع إلى أصحاب رسول الله (ص) فوجدهم قد ملكوا الدير وقَتلوا العِلْج العميل للروم، ونالوا مغانمهم(1).
هذه تفاصيل أحداث فتح البداوي على يد سيد آل البيت الصحابي الشاب ابن جعفر، وفيها المودّة والتعاون لنُصرة الدين، والاحترام الذي كان متبادلاً بين آل البيت والصحابة رضي الله عنهم، والخضوع لخلافة عمر ولقيادة أبي عبيدة. بل كان عبد الله بن جعفر يَفِدُ على معاوية بن أبي سفيان بدار الخلافة بدمشق كل سنة فيَخُصُّه بعطاء عظيم من بيت المال، ويستجيب له في قضاء حوائج الناس التي يحملها إليه. وبلغ الحب بينهما أن استجاب لطلبه فسمّى ابنه بمعاوية كما يؤكِّد النّسّابةُ الشيعي ابن عِنَبة (828هـ)(2).
وصارت البداوي مِن أهم مراكز الرباط لِحماية «الثغور» الحدودية لساحل الشام، ونزلها كثير من الصحابة.
ويؤكِّد كثيرون أن «مرج السلسلة» هي موضع مصفاة البداوي اليوم؛ منهم أبو مطيع معاوية بن يحيى الأطرابلسي (170هـ) الذي حدّد موقعه بأنه يَبعد عن أطرابلس خمسة أميال في أصل جبل يقال له «طُرْبُل».
وقال الرحالة الجغرافي «الشريف الإدريسي» (560 هـ) يعدّد الحصون القريبة من طرابلس: «وينضاف إليها عدة حصون وقلاع معمورة داخلة في عمالتها مثل: حصن القالمون (بالألف)، وحصن أبي العدس.
وفي سنة 1897م وضع قنصل فرنسا في طرابلس مخططاً لمواقع الأبراج التي كانت قائمة آنذاك، وحدّد موقع «برج العدس» شمالي المدينة على الساحل في الموضع المعروف بـ «الدعتور»، حيث منشآت شركة النفط ومصفاة طرابلس الآن(3).
ــــــــــــــــــــــــــ
·هوامش:
1. فتوح الشام، تأليف الواقدي، ص11-64، بتصرف واختصار.
2. عُمدة الطالب، تأليف ابن عِنَبة، ص37. من: الأسماء والمصاهرات بين آل البيت والصحابة، تأليف السيد بن أحمد، مبرّة الآل والأصحاب، الكويت، ص55.
3. الصحابة في لبنان، تأليف د. عمر تدمري، المكتبة العصرية، ص 20، 26 باختصار. ومن مراجعه نُزهة المشتاق، تأليف الشريف الإدريسي، ص17. وغيرها.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن