غزة... إذ تُحرج الأنظمة وتُلهِم الشعوب!
كتب بواسطة بقلم: سهاد عكيلة
التاريخ:
فى : المقالات العامة
572 مشاهدة
غزة... تلك المدرسة العالمية التي تصنع الإنسان وتعلِّمه كيف يَحيا على أرضٍ مَوات...
غزة التي تعيش حياة استثنائية في زمن استثنائي، قد أصبحت - من حيث لا يريد سجّانوها - قِبلة الشرق والغرب، وأضحت تشكّل رقماً صعباً في السياسات الخارجية للدول العربية والإقليمية وحتى العالمية.
فها هي قضية فلسطين تدخل منعطفاً جديداً غيّر المعادلة "القومية" و"الوطنية" بدخول تركيا على خط المواجهة، وأعادها إلى أصلها... إلى "إسلاميتها" بعد أن اختطفها "العروبيون" عقوداً وجعلوها ورقةَ مساومة خاسرة ليحفظوا عروشهم التي تعفّنت من طول المُكث عليها!
وها هي الدماء الإسلامية التركية تمتزج بمياه البحر لتعانق شواطئ غزة وتبلّغها تحيات أصحابها وأشواقهم... ولتجري في عروق القضية الفلسطينية وتُعطيها بُعداً متجدداً يكسر قيد القومية العربية ويُخرجها من ذلك القفص المظلم الذي حبسوها فيه عقوداً، فذاب ثلج الادعاءات وبَان مرج الخيانات لمكفوفي القلوب والأبصار، وتهاوت النزعة القومية خائرة القُوى ما لها من منقذ...
وها هي القوافل والسفن تتوالى، لتمدّ في "شرايين" غزة الحياة، ولكي تتعلم من أهله قواعد وأصول "الحرية": قافلة "شريان الحياة"، أسطول "الحرية" (1) و (2)، وسفن أخرى منها سفينة "للنساء فقط" تستعد للإبحار، وهنا أقف قليلاً... فمع شكرنا وتقديرنا لمشاعرهن الإنسانية ولجهودهن، فإن في فمي ماء... أنا في الحقيقة لم أفهم الحكمة من استبعاد الرجل عن رحلة فيها من الأهوال والمخاطر ما فيها دون حرص على تكامل دور الرجل مع المرأة خلالها: هل هي تحدٍّ للرجل "الشرقي" وللمجتمع "الذكوري" في ظروفٍ كهذه؟ أم هي لإثبات أن المرأة تستطيع أن تقوم بما يقوم به الرجل وزيادة؟ أم هل ظنّت القيّمات أن الصهاينة سيأخذون بالاعتبار كون السفينة "أُنثوية" مئة في المئة ويفرشون لهن على سطح المياه الدولية السجاد "الأخضر"، بعدما فرشوه لرواد "الحرية" بالأحمر القاني، ليعبُرن إلى غزة بسلام، ويَرفُقوا بهن باعتبارهن قوارير عملاً بوصية سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؟ أم هي الغاية... تبرر الوسيلة؟ لا أدري... على أيِّ حال، وبغضِّ النظر عن اتفاق الوسيلة مع المنطق السليم أو مخالفتها، فإنني أؤكد على أنّ كل مَن اجتهد وعرّض نفسه للمخاطر لا يبتغي إلا كسر الحصار وإرغام أنف الصهاينة فإنه مشكورٌ مشكور، وإن كان لله عز وجل فإنه مشكور مأجور.
أعود لغزة التي حاصرت النظام الدولي وكشفت عن سوءاته، وأحرجت بشموخها الدول العربية وأجبرت جارتها على التنازل ولو مؤقتاً عن صَلَفها وتعنّتها، ليس كسراً للحصار وإنما إخراجاً للعدوّ من مأزقه عقب جريمة البحر التي أودت بحياة تسعة شهداء من الأتراك، فضلاً عن عشرات الجرحى، أو لعله حفظاً لجزء بقي من ماء الوجه إن كانت هناك بقية، بعد أن أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن نيته المشاركة في أسطول الحرية 2، الأمر الذي دفع رئيس جامعة الدول العربية عمرو موسى إلى زيارة غزة.. ونحمد الله الذي أرسل لنا أردوغان حتى يوقظه من سُباته، وحتى يعطينا الفرصة لنقول لحضرته: صح النوم، "بَكّير"... لماذا كلّفت نفسك يا رجل وحمّلتها ما لا تطيق؟ ولمَ العجلة؟ فغزة ما زالت مكانها ولم يتمكن الصهاينة من رميها في البحر، فلتأخذ لك "غطّة" أخرى، فما زال الوقت مبكراً، وما زال الحصار خانقاً، والمرضى ينتظرون على المعابر "العربية"... ويموتون، وساكنو الخِيام ينتظرون إدخال المواد المحظورة عربياً وصهيونياً مثل الحديد والإسمنت لبناء بيوتهم، والقلوب المؤمنة الصابرة تشكو إلى الله ظلم ذوي القربى الذين تحوّلوا إلى جمادات لا حياة فيها...
كل هذا من أسبابه الجوهرية: زعماؤنا "المنتَخَبون" الذين جعلوا – مع أسيادهم - من الحصار قاعدة ثابتة يخرقها صوت حي من هنا وفِعل إنساني من هناك، ولسان حالهم يردد مع الشاعر أحمد مطر:
"أنا السببْ... في كل ما جرى لكم... يا أيها العربْ... أنا الذي اغتصبتُ أرضَكم وعِرضَكم، وكلَّ غالٍ عندكم... أنا الذي طردتُكم من هضْبة الجولان والجليلِ والنقبْ... والقدسُ، في ضياعها، كنتُ أنا السببْ... نعم أنا.. أنا السببْ... أنا الذي لمّا أتيتُ: المسجدُ الأقصى ذهبْ... أنا الذي أمرتُ جيشي، في الحروب كلها بالانسحاب فانسحبْ... أنا الذي هزمتُكم... أنا الذي شرّدتُكم وبِعتكم في السوق مثل عيدان القصبْ... نعم أنا.. أنا السببْ... فلتغضبوا إذا استطعتم... بعدما قتلتُ في نفوسكم روحَ التحدي والغضبْ... وبعدما شجَّعتكم على الفسوق والمجون والطربْ... وبعدما أقنعتكم أن المظاهراتِ فوضى ليس إلا وشَغَبْ... وبعدما علَّمتكم أن السكوتَ من ذهبْ... هل عرفتم من أنا؟... أنا رئيس دولة من دول العرب"!
ولكن... من حكمة الله سبحانه أنْ جعل الأيام دُوَلاً، وسنّ قانون الاستبدال، قال تعالى: {... وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:54). يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسيره لهذه الآية مبيّناً اختيار الله للفئة والعُصبة المؤمنة التي يُشرّفها لتنفيذ قدره سبحانه "في إقرار دين الله في الأرض، وتمكين سلطانه في حياة البشر، وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم، وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم، وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة... إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومِنّته؛ فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المِنّة.. فهو وذاك، والله غني عنه وعن العالمين؛ والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم".
إن هؤلاء وإن رفضوا فضل الله تعالى وانتفت فيهم شروط الحب المتبادَل: {يُحِبّهم ويُحِبّونه}، فإن في هذه الأمة مَن تتوفر فيهم هذه الصفات، غير أن نسبتهم لا تكفي للارتقاء بالأمة المعاصِرة إلى هذه المرتبة التي من بَرَكاتها: تحقيق النصر، واستعادة دفة القيادة العالمية، وتحرير العباد من عبودية الأصنام المحنّطة والمتحركة... وهذا يحتِّم على علماء الأمة وقادتها الحقيقيّين السعي لجعلها الصفة الغالبة التي تميّز هذه الأمة، وذلك بتربية الجيل عليها، وجعلها سلوكاً لأفرادها ومنهجاً لحياتهم، والأهم من ذلك أن يكونوا هم أنفسهم قدوة في حالهم ومقالهم: يسمّون الأمور بأسمائها، ويُعطون الأحداث أبعادها الحقيقية، ويبيِّنون للناس ما غُيِّب عنهم، ولا يخشَوْن حاكماً محلياً ولا متغطرساً دَوْلياً... لأنهم: لا يخافون في الله لَومة لائم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن