جَمالٌ قَبيحٌ وقُبْحٌ جَميل
تَراهُ فيُعجبكَ شكلُه وكمالُ هيئتِه، ولكن سرعان ما يزول هذا الجمال عندما تقعُ على قُبحِ باطنه، وسوادِ نفسه.
حسناء جميلة، لا تلبث أن ترى خلف جمالها فكرَها الملوث، وسعيَها الدؤوب لنشر الرذيلة وقتل العفة والفضيلة، فتنسى جمالَ صورتِها فلا تعود ترى إلا قُبحاً.
حَفِيَتْ أقدامُهم وهم يبحثون عنها؛ زوجة لابنهم: امرأة حسناء بيضاء شقراء، ذات عيون خضراء، وما إن وجدوها وتمَّ الزواج؛ إلا واختفى هذا الجمال في عيونهم بعدما لم يجدوا جمال الروح، وطبعاً هم يستحقون انكساف البال هذا؛ فمن يُقدّم جمال الشكل على جمال الروح، يخسرهما معاً.
ذكرَ أحدُهم أن رجلاً كان يلبس لباساً جميلاً أنيقاً، ولكنَّ لسانه بذيء. فقال له آخر: يا هذا، إما أن تتكلم مثل لباسك، أو أن تلبس مثل كلامك.
كان الأحنفُ بن قيس ـ وهو من كبار التابعين ـ ضئيلاً، صغيرَ الرأس، متراكبَ الأسنان، مُنخسِفَ العين، مائلَ الذقن، في رجليه اعوجاجٌ والتواء إلى الداخل، ولكنه مع هذه الصفات الدميمة كان سيِّدَ قومه؛ لِما عُرف عنه من رجاحة العقل والحِلْمِ والتواضع.
قال رجل للأحنف بن قيس: بم سُدْتَ قومَك وأنت أحنف أعور؟ قال: بتركي مالا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وبعد وفاة الأحنف، نَدَبَتْه إحدى النساء فقالت: لقد عشتَ حميدًا مودودًا، ومت شهيدًا فقيدًا، ولقد كنت في المحافل شريفًا، وعلى الأرامل عطوفًا، ومن الناس قريبًا، وفيهم غريبًا، وإن كنت لمسودًا.
مسلم بن عمران، تاجر من البصرة، تزوج امرأة قبيحة دميمة، ولكنه أحبها حباً ذَهَبَ به كل مذهب، وأنساه كلَّ الجميلات من النساء، رزقه الله منها ولدين كالشمس والقمر في الحسن والجمال والأدب.
تبدأُ القصةُ من مدينةِ (بلخ)، عندما قدِمها مسلمُ من البصرة، ثم ذهب إلى حلقة الإمام أبي عبد الله البلخي، وسمِعَه يفسرُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد". فشرحَ الإمامُ وفصَّل في المعنى الإنساني للقبحِ والجمال، وكيف تكون المرأةُ القبيحةُ جميلةً في عينِ ونفسِ زوجِها، ولقد اختار الإمامُ أحمدُ بن حنبل عوراءَ على أختِها، وكانت أختُها جميلةً، فسأل: من أعقلهما؟ فقيل: العوراء. فقال: زوِّجوني إيّاها.
لقد كان لهذا الكلام ومعانيه وقعٌ كبير في نفس مسلم، فقال: "والله قد حبَّبَ إليَّ السوداءَ والقبيحةَ والدميمةَ، ونظرتُ لنفسي بخير النظرين، وقلت: إن تزوجتُ يوماً فما أُبالي جمالاً ولا قبحاً، إنما أريد إنسانيةً كاملة مني ومنها ومن أولادنا، والمرأةُ في كل امرأة، ولكن ليس العقلُ في كل امرأة".
قال مسلم ـ وكان يروي قصة زواجه لأحمد بن أيمن: "ثم إني رجعتُ إلى البصرة، وآثرت السُّكنى بها، وتعالم الناسُ إقبالي، وعلمْتُ أنه لا يحسن بي المقام بغير زوجة، ولم يكن بها أجلّ قدرًا مِن جَدِّ هذين الغلامين (يقصدُ ولديه)، وكانت له بنت قد عضلها وتعرض بذلك لعداوة خُطَّابها؛ فقلت: ما لهذه البنت بد من شأن، ولو لم تكن أكمل النساء وأجملهن، ما ضنَّ بها أبوها رجاوة أن يأتيه من هو أعلى. فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوة.
قلت: يا عم، أنا فلان بن فلان التاجر.
قال: ما خفي عني محلك ومحل أبيك.
فقلت: جئتُك خاطبًا لابنتك.
قال: والله ما بي عنك رغبة، ولقد خطبها إليَّ جماعةٌ من وجوه البصرة وما أجبتهم، وإني لكاره إخراجها من حِضْني إلى من يقوِّمها تقويم العبيد.
فقلت: قد رفعها الله عن هذا الموضع، وأنا أسألك أن تدخلني في عددك، وتخلطني بشملك.
فقال: ولا بد من هذا؟
قلت: لا بد.
قال: اغد علي برجالك.
قال: وغدونا عليه؛ فأحسن الإجابة وزوجني، وأطعم القوم ونحر لهم.
ثم قال: إن شئت أن تبيت بأهلك فافعل، فليس لها ما يحتاج إلى التلوم عليه وانتظاره.
فقلت: هذا يا سيدي ما أُحبُّه.
فلم يزل يحدثني بكل حسن حتى كانت المغرب، فصلاها بي، ثم سبّح وسبّحتُ، ودعا ودعوْتُ، وبقي مُقبلًا على دعائِه وتسبيحِه، ما يلتفت لغير ذلك. فأمضّني ـ عَلِمَ اللهُ ـ كأنه يرى أن ابنتَه مُقبِلةٌ مِنّي على مصيبة، فهو يتضرع ويدعو!
ثم كانت العَتَمَة فصلاها بي، وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار قد فُرشت بأحسن فرش، وبها خدم وجوارٍ، في نهاية من النظافة؛ فما استقر بي الجلوس حتى نهض وقال: أستودعك الله، وقدم الله لكما الخير وأحرز التوفيق.
قال مسلم: لم تكن الدميمة الشوهاء إلا العروس، ولما نظرتُها لم أرَ إلا ما كنتُ حفظتُه عن أبي عبد الله البلخي، وقلتُ: هي نفسي جاءت بي إليها، وكأن كلامَ الشيخ إنما كان عملاً يعملُ فيَّ ويُديرُني ويُصرفني.
وما أسرع ما قامت المسكينةُ فأَكَبَّتْ على يدي وقالت: يا سيدي، إني سِرٌّ مِن أسرار والدي، كتَمَه عن الناس وأفضى به إليك؛ إذ رآك أهلاً لستره عليه، فلا تَخْفِر ظنَّه فيك، ولو كان الذي يُطلَبُ من الزوجةِ حُسْنُ صورتِها دون حُسن تدبيرها وعفافها لعَظمت مِحنتي، وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصَّر بي في حسن الصورة، وسأبلغُ محبتكَ في كل ما تأمرني، ولو أنك آذيتَني لعددتُ الأذى منك نعمة، فكيف إن وَسِعَني كرمُكَ وستْرُك؟ إنك لا تعاملُ اللهَ بأفضلَ مِن أن تكون سببًا في سعادة بائسةٍ مثلي، أفلا تحرص يا سيدي، على أن تكون هذا السبب الشريف؟
ثم إنها وثبت فجاءت بمالٍ في كيس، وقالت: يا سيدي، قد أحلَّ اللهُ لك معي ثلاثَ حرائر، وما آثرتَهُ من الإماء، وقد سَوَّغْتُكَ تزويج الثلاث وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد وَقَفْتُه على شهواتِك، ولستُ أطلبُ منكَ إلا ستري فقط.
فقلت لها: إنَّ جزاء ما قدَّمتِ ما تسمعينه مني: والله، لأجعلنكِ حَظّي من دُنياي فيما يُؤثِره الرجلُ من المرأة، ولأضربنَّ على نفسي الحجاب، ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبدًا.
ثم أتممتُ سرورَها، فحدثتُها بما حفظتُه عن أبي عبد الله البلخي. فأيقنَتْ ـ والله يا أحمد ـ أنها نزلَتْ مني في أرفع منازلها، وجعلتْ تُحسِّنُ وتحسِّن، كالغصن الذي كان مجرودًا، ثم وخزتْه الخضرة من هنا ومن هنا.
وعاشرتها، فإذا هي أضبط النساء، وأحسنهن تدبيرًا، وأشفقهن علي، وأحبهن لي؛ وإذا راحتي وطاعتي أول أمرها وآخره؛ وإذا عقلها وذكاؤها يظهران لي من جمال معانيها ما لا يزال يكثر ويكثر، فجعل القبح يقل ويقل، وزال القبحُ باعتيادي رؤيته، وبقيت المعاني على جمالها؛ وصارت لي هذه الزوجة هي المرأة وفوق المرأة".
يا من تبحثون عن الجمال، إنَّ الجمالَ هو جمالُ الرّوح، جمال النفس الزكية والقلب الطاهر، جمال العفة والفضيلة، جمال العقل النَّيِّر والفكر النظيف، جمال الإنسانية الراقية.
جمال الروح ذاك هو الجمالُ *** تطيبُ به الشمائِلُ والخِلالُ
ولا تُغني إذا حسُنتْ وجوهٌ *** وفي الأجساد أرواحٌ ثقالُ
ولا الأخلاق ليس لها جذورٌ *** من الإيمان توَّجَها الكمالُ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن