باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
القرم.. بين المجد وتتابع النكبات -1-
تركت الأندلس جرحًا غائرًا في وجدان الأمة، لم يشعر المسلمون بمثيله ألمًا وأثرا، مع تكرر النكبات وتتالي الجراح على هذه الأمة المكلمومة، اللهم عدى احتلال شذاذ الآفاق من الصهاينة لفلسطين وسيطرتهم على عروس المدائن القدس، وما ينهش جسدها في الواقع من ذئاب ووحوش..
تلوح لنا الأندلس كجريمة لا يمكن نسيانها وما حاق المسلمين فيها من عذابات وفظائع، ولكننا أيضًا نجهل حينًا ونتناسى أحيانًا بقاعًا أخرى من الأرض هي كما الأندلس في مكانها ومكانتها، دخلها الإسلام فاتحًا مظفرًا شاد فيها من صروح العز والحضارة، ساس فيها الناس بالعدل والحكمة، ولكن الأعداء حاقوا بها الدوائر، وجلجلت في جنباتها صليل غدرهم وخستهم وأحالوا تلك البلاد لحقول من المآسي لا يعبق فيها إلا روائح الموت...
حديثنا في هذه العجالة عن بلاد القرم، تلك المنطقة المنسية التي انزوت بين خلافات التاريخ والجغرافية فطوتها الذاكرة لسنوات عجاف كأنها لم تكن موجودة قط، حتى خرجت من جديد وإرهاصات حرب عظمى تلوح في الأفق، وروسيا الجديدة تقضمها أمام مرأى العالم ومسمعه...
لن ندخل في تحليل السياسة ومفاعيل الحدث وحيثياته، ولا الكلام الممجوج عن تعدد الأقطاب والتغييرات الكبرى، فهي ليست إلا أسواق للنخاسة الحديثة تهتك فيها أعراض ويغتني فيها قوادون...
القرم منطقة عظيمة شهدت رحاها صراعات هائلة من زمن الرومان حتى اليوم، وتكمن أهميتها في موقعها الاستراتيجي وإشرافها على ممرات مائية مهمة، (البحر الأسود والبوسفور والبحر المتوسط)، كما أعطاها موقعها تحصينًا طبيعي من أي خطر داهم..
القرم كلمة تركية تعني القلعة أو الحصن، ذات طبيعة خلابة ومناخ مميز، وتتنوع في أراضيها بين السهول الخضراء والجبال الشاهقة والتلال والوديان الجميلة والبحيرات والأنهار العذبة، وهي منطقة غنية بالمعادن والنفط والغاز، والفحم الحجري والنحاس، ويقع فيها أهم مرفأ على البحر الأسود وهو مرفأ مدينة سيفاستوبول، أهم مدن الإقليم العاصمة سيمفروبل، وهي مدينة اسلامية عريقة اعرفت فيما مضى باسم «آق مسجد» أي «المسجد الأبيض».
وصل الإسلام للقرم قديمًا مع الرحالة والتجار المسلمين في القرن الرابع الهجري، وبعد احتلال المغول لهذه الأرض ومن ثم دخولهم في الدين العظيم في أعظم صور التلاقح الحضاري عندما يتأثر الغزاة بالإسلام وليس العكس، فاستحالوا قوة عظيمة لهم في الهند صولات وفي قلب أوروبا مكانة ومهابة، حدث ذلك في حدود عام 650 هـ إبان حكم القبيلة الذهبية.
توسع التتر في شبه جزيرة القرم وبلغ نفوذهم أضعاف مضاعفة ودامت دولتهم حوالي 120 عامًا، ومع الوهن والضعف الذي دب في الإمارة وانقسامها على نفسها بإمارات أصغر، قام الروس باحتلال هذه المناطق، ولكن أحد أمراء المغول ويدعى "توقتاميش" (762- 798هـ) تمكن من مواجهة الروس وصدّ أطماعهم في احتلال القرم، بل وقام بحملة مضادة وصل فيها حتى مدينة موسكو ودخلها عام 783 هـ.
أمام التغول الروسي ولتشكيل جبهة إسلامية واحدة، عقدت خانية – إمارة - القرم في عام 1475م تحالفًا مع الدولة العثمانية، وأصبحت هذه البلاد تحت السيادة والحماية العثمانيتين، وانضمَّ التتر تدريجيًّا إلى الوحدات العسكرية لدولة بني عثمان، شاركوا معه إخوانهم على مدى ثلاثة مائة عام بكل الفتوحات والمعارك العثمانية في أوروبا والبلاد العربية وإيران، ومع هذا بقيت خانية القرم محافظةً على استقلالها الداخلي، مشكّلة خط الدفاع الأول في مواجهة الروس وواحدة من أقوى الدول وأكثرها حضارة في شرق أوروبا.
لم تمض السنوات إلا وقد احتل الروس إمارات قازان - 959هـ- ، والباشغرد - 959- هـ، وسيبريا الغربية 1078هـ، وهكذا غدت بلاد التتار تحت الاحتلال الروسي باستثناء بلاد القرم، وقد ارتكب الروس فظائعًا بحق المسلمين، لم يستطع مسلمو القرم الوقوف على الحياد وإخوانهم في العقيدة يتعرضون لأبشع حملات القتل والتهجير.
ففي عام 978 هـ / 1571 م استطاع خان القرم "دولت كيراي" رحمه الله من وضع حد للأطماع الروسية بمساعدة كتيبة من المدفعية العثمانية صاحبة الباع الطويل في هذا المجال، استطاع هذا القائد هزيمة الجيش الروسي قرب موسكو، بعدما خسر الروس ثمانية آلاف جندي، وهروب قائدهم القيصر (إيفان الرهيب) ولم يستطع حتى الدفاع عن عاصمته، فدخلها المسلمون رافعين فيها راية التوحيد وعاد كيراي للقرم ومعه غنائم لا تحصى.
ويشهد التاريخ أن السلطان العثماني سليم الثاني رحمه الله (ت 1574م) طرد السفراء الروس الذين طلبوا منه التوسط لوقف الحملات الإسلامية، كما عمت الأفراح في اسطنبول بعد وصول خبر انتصارات المسلمين، وفي العام التالي قام كيراي بقيادة حملة ثانية، أذعن خلالها الروس على دفع ضريبة سنوية مقدارها 60 ألف ليرة عثمانية.
كانت خانية القرم هي القوة الوحيدة التي استطاعت أن تُوقِف روسيا في القرن السادس عشر بعدما بدأت تتسع وتقوى في وجه الخانيات التركية المسلمة، بل وفرضت سيطرتها على عاصمتها موسكو مدة قدّرها بعض المؤرخون بما يزيد عن 100 عام، وفيما بعد فرضت خانية القرم سيطرتَها على الجزء الغربي من القوقاز أيضًا.
عرفت عاصمة خانية القرم بـ "بغجة سراي" وكانت على غرار حواضر الإسلام الهامة دمشق واسطنبول مدينة مزدهرة عامرة بالمساجد والدكاكين والتجار والحدائق والقصور، تم تأسيس المدينة على يد «صاحب كراي بن الحاج كراي الأول» عام 1532م، حسب ما ذكر الرحالة والمؤرخون الروس والأتراك، فقد كان في المدينة أواسط القرن 17
الميلادي أكثر 2000 بيت كبير ذي طابقين، وحوت المدينة 32 مسجداً ذات قباب ومنارات جميلة، والعديد من القصور.
ومن أبرز المعالم التي استطاعت النجاة من عصور الطمس والتزييف هو قصر الخان الذي يعتبر الناجي الوحيد من المجزرة التاريخية التي تعرض لها سكان القرم، وهو أحد خمسة قصور ضمها الإقليم وهدّم أربعة منها وأزيلت آثارها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من طرف القيصرية الروسية.
يقع القصر وسط المدينة على ضفة نهر "شوروق سو" (وتعني بالتترية ماء الشرق)، وقد بُني على الطراز التركي السلجوقي القرمي، وهو محاط بالحدائق والأشجار ، والقصر آية في جمال الفن الهندسي والمعماري، ويضم مسجدين وبيت السلطان ، أما حديقته الواسعة فتتلون بمختلف أنواع الأشجار والزهور والنباتات، وتضم 14 نافورة، أبرزها "عين الدموع" التي بناها الخان قرم كيراي حزنا على وفاة زوجته الحبيبة ديلارا، والنافورة الذهبية، ونافورة سلسبيل.
هذه قرطبة أخرى في أوروبا لا يعرف كثير من المسلمين عنها شيئا، ضاعت واختفت وفي الجزء الثاني من المقال نستعرض الأهوال التي تعرض لها مسلمو القرم حتى تحولوا من أصحاب الأرض إلى جزء ضئيل من السكان.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة