ضائعة... ولكن....
رأيتها تسير بتباطؤ ومشقّة بادية على قَسمات وجهها العَبوس، تجرُّ بعضها وكأن سنين عمرها العشرين جبالاً تربض فوق كَتفها وتحطّ من عزيمتها، عيناها الغارقتان في الدموع، تطيش نظراتها في الأجواء لا تعرف لها قراراً. إنها هي، صديقتي رانية، تمتمتْ سُمية وهي تهرول نحوها لتأخذ بيدها فيما كانت تهوي على إحدى المقاعد على قارعة الطريق...
سمية: رانية؟ نعم، أنت رانية، لقد مضى وقتٌ طويل لم أركِ فيه.
رفعت رأسها الملقى على كاهلها ونظرت إلى سُميّة كمن ترى سراباً يتمنى أن يكون حقيقة ولفظت ْ كلماتٍ بالكاد تُسمع...
رانية: سُميّة، هل هذا أنت؟
سمية: أجل أنا زميلة الدراسة ورفيقة الدرب، أخبريني كيف حالكِ ؟
رانية: انتهيتُ يا سمية، أشعر وكأنني على حافة الهاوية.
سمية:تبدين غارقة في اليأس، فما سبب شيخوختك وأنت في ريعان شبابك؟ لقد كنت بالأمس معنا على مقاعد الدراسة تضحكين وتلعبين، وفجأة اختفيتِ فلم نعد نسمع عنك شيئاً، وها أنا ذا أراكِ تتخبطين في الأشجان، ما فعل بَكِ هذا؟
رانية: قصتي طويلة، وأخباري تكاد لا تحمل شيئاً من الفرحة، فمنذ تركتكنّ ورائي في المدرسة، وانكببتُ على صحبة تلك التي زعمت صداقتي، ما شممتُ ريح الطمأنينة ولا بلغتُ مراديُ في التماس السكينة، كلُّ ذلك لأنني أَسْكتُّ عقلي ومنّيتُ قلبي فطغى هواي وتملّكني، إلى أن وجدتُ نفسي غارقة معها ألوان الملذات والملاهي، ويوم أن وصلني خبرُ طردي من المدرسة لغيابي المستمر، لم أُبالي، بل سررت لأنني سأجد متسعاً من الوقت لهَدره وتضييعه في التسكع في الأسواق وحضور الحفلات الراقصة الهابطة.
سمية: ألم ننصحكِ يا رانية بعدم مرافقة تلك الضائعة؟ إلا أنك أصررتِ ، ونَعتّنا بصفات التزمُّت والحسد، فماذا جنيت بصحبة السّوء تلك؟...
رانية: لم تنته قصتي بعد، فالمرحلة التالية كانت قمة الاقتصاص مني ومحاسبتي على ما فرطتُ وضيعت. فبعد أن زلّت قدمي واندمجتُ في تلك الأجواء الماجنة عرّفتني على أخيها.وراح يرسم لي طريق الحب والهيام ويستدرجني بالكلام عن الزواج والحياة المستقرة الهنيّة ففرضته على أهلي الذين حاربوا هذه الفكرة بعد ما تبين لهم سوء أخلاقه واعوجاج مسيرته، إلاّ أنني هدّدتهم بالانتحار فرضخوا وأعينهم تفيض عليّ دماً. أما أنا فكنتُ هائمة في عالم الغرام، غير آبهة بما سأنتهي إليه. وتزوجتُ، ودخلت دنيا السكينة والمودة التي لم أجدُ معه فيها هذين المعنيين، بل كانت خصاماً وغربةً ووحشة وتسلطاً وقهراً، وكلما حاولتُ إصلاح دنياي ازدادت تلبُّداً وسوءاً إلى أن أتتْ تلك اللحظة التي نُعمتُ بها بكلمة (أنت طالق) فكانت النهاية، وها أنا ذا ملتصقة على هامش الطريق، لا أجرؤ على مواجهة أهلي بعدما كبّدتهم خسارة ابنتهم العفيفة!.
سمية: هيا قومي معي لنذهب إلى ذويك، فأظنّ أن والدك أحقُّ بكِ من ذئاب الطريق، لقد عدتِ إلى جادة الصواب بعدما تضاربتك أهواؤك، فتوبي إلى الله واسأليه أن يعفو عنكِ ويُديم عليك نعمة البصيرة ويلهمك نورَ الحق حتى تثبتي على طاعته ورافقةِ من تُعينك على رضاه.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة