لن أعتذر!
أكلّ هذا الحزن والألم من أجل تلك الزهرة؟
الزوج مستمر في الحديث مع نفسه: إنها زهرة جافة، وليس لها لون، مع أن زوجتي هبة تصرّ على أنها بيضاء!
قالت لي يوماً بعد زواجنا بقليل: إنها من غالية حبيبة، ولم تزد على ذلك. فاحترمتُ صمتها وتركتُها وزهرتَها مع سرِّهما.
ها هي مقبلة تلفّ زهرتها بحنان داخل منديل حريريّ، ما هذا العَجَب؟
قالت في رجاء: أريد أن أشتري بعض الأدوات لأرمم زهرتي البيضاء، فقد خسرتْ الكثير من وُرَيقاتها، أفكر أن أجعلها.. لا، لن أخبرك الآن وسترى بنفسك لاحقاً.
- قلتُ لها في ريبة: سأحضر لك ما أردت ولكن...
قاطعتني: أعرف أنك متعجب من تعلقي بها وحبي لها.
هي من أمي، لكن ليس هذا الاهتمام لأنها كذلك فقط، بل لأنني لا أستطيع أن أسامح نفسي، ولا أستطيع أن أنسى أن أمي يوماً ما أحضرتها لي في موقف كنتُ فيه في منتهى الأنانية والكِبْر والغطرسة، وكانت في المقابل في الموقف نفسه في منتهى اللطف والرقة والتسامح واللين والرفق والإيثار.
عاقبني يوماً والدي بعد جدلٍ بيننا، ومنعني الذهاب لحفل زفاف سارة صديقتي التي هي ابنة أحَب صديقات أمي وأقربهن إلى قلبها؛ بل تعُدّها ابنتها الثالثة لأنها كانت إحدى طالباتها لسنوات.
- ابتسم كريم وسأل: ولماذا كانت العقوبة؟
قالت هبة: لأنني كنت أضيّع صلوات الفجر بسبب سهري الطويل والمتواصل.
- كريم مازحاً: شكراً لوالدك، لأنه لو لم يفعل لفعلت أنا الآن... وماذا بعد؟
هبة: طبعاً تضايقتْ أمي كثيراً وطلبتْ إليّ أن أعتذر من والدي وأتعهد بأداء الصلاة وعدم السهر، لكنني رفضتُ وأصررت، بل وقلت لها في كِبْر وأنانية: ولماذا أعتذر منه؟ لم أُذنب في حقه هو شخصياً ذنباً يستحق العقاب! أنا لا أصلّي له، والله هو مَن يحاسبني على صلاتي وتقصيري وجميع أفعالي.
* قالت أمي يومها: العقوبة يا ابنتي لحبِّه لك وحرصه عليك.. العقوبة لخوفه عليك.. العقوبة لأنه محاسَب ومسؤول عنك.. وفي النهاية أنت من سيربح الرضا والجنة.
قلت: لن أعتذر، لن أعتذر.
* لكن حبيبتي عادت تقول: والفستان الجميل الذي اشتريته لك بعد أن جمعت ثمنه يوماً بعد يوم؟ بدَوْتِ فيه كالأميرة يا ابنتي، وأحب أن أَسعد برؤيتك تلبسَينه اليوم، أحب أن تكوني معي ترافقينني في الحفل! لا أريد أن أدخل وحدي دونك، ثم إن العروس ستسأل عنك، أليست صديقتك؟
لم أُجبْها، فانصرفَتْ!! والله وحده يعلم كيف كانت نفسيتها، لأني يومها لم أهتم!
وظللتُ على موقفي اللئيم وعنجهيتي البغيضة، وذهبتْ أمي كسيرة الفؤاد موجوعة الخاطر وحدها! ولم تفلح الزينة والمكملات التي وضعتها في إخفاء حزنها وانكسار قلبها!
تخيل أنني لم أتنازل؟ تخيل أنني لم أتراجع؟ أي غِلظة هذه وأي عقوق؟
استيقظتُ قريباً من عصر اليوم التالي، وأول ما وقعت عليه عيناي تلك الزهرة البيضاء التي أحضرتْها أمي معها من الحفل، وقد وقفتْ أنيقة لطيفة في ذلك الوعاء الشفّاف الذي لم يغطّ من حُسْنها شيئاً!
تأثرتُ في تلك اللحظة وحتى يومي هذا تأثراً بالغاً، ولُمتُ نفسي الأنانية كيف استطاعت أن تقسوَ في حق أُم حنون رَؤوم!
فقررتُ أخيراً أن أعتذر من أمي وأبي.. قررتُ أن أطلب منها أن تسامحني، وهي ستفعل لأنها السخية في حبها، الكريمة في وُدِّها، العظيمة في أخلاقها.. لأنها كبيرة وأنا صغيرة، لأنها لا تستحق أن أكون ابنتها ولا أستحق أن تكون أمي..
ذهبتُ أمشي بخطوات خَجِلة إلى حجرتها، ناديتها، لمستُ كفيها الدافئتين دائماً، لكنهما كانتا باردتين جداً وقتها! وضعتُ رأسي على صدرها أبكي فوجدتُه صامتاً لا يعلو ولا يهبط! ولا يفعل أي شيء!!
ماتت.. نعم ماتت وهي غاضبة مني، ماتت وهي حزينة!! أريدها أن تعود للحياة ولو ساعة فأقبِّل يديها ورجليها ورأسها! أريد أن أبكي على صدرها! أريد أن أقول لها سامحيني يا غالية، فتقبّلني وتقول لقد سامحتُك يا هبة..
لكنها لم تقل يا كريم، ولن أعرف إن سامحتني أم لا.. لأنها ماتت.
ثم... عرفتُ بعد فترة أنها أرادت مني الذهاب معها لأن والدتك كانت مدعوة وتريد أن تراني حيث كانت تبحث عن عروس لابنها، وكنتُ المرشَّحة!
عرفتُ وما زلت، وبعد مرور ثلاث سنوات على وفاتها، أن زوجي الرائع في دينه وأخلاقه كانت أمي من سعى في زواجي منه.
أعرفت أيها الكريم لماذا أحتفظ بهذه الزهرة؟
لأنها تذكّرني بعظَمة أمي ونقائها، فأدعو لها كل ساعة وأتوسل إلى الله أن يرحمها ويغفر لي! وتذكِّرني بعنجهيتي وغروري... فأتواضع وألين وأتوسل إلى الله أن يغفرَ لي ويدخلها ويدخلني الجنة لأطلب منها أن تسامحني.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن