... وألحقني بالصالحين
هكذا هي السماء تحكي قصة صدقهم وأوجاع دعائهم كلما أطل الشتاء حاملاً معه ذكرى قسماتهم الحزينة... هكذا صوت الرعد يحكي للعالم قصة شجاعتهم الفذة وحزنهم الماطر ورجولتهم الصادقة التي لا تعرف طريقاً للتعبير عن نفسها سمى بالموت في سبيل الله... يا هذا الفصل المثقل بالذكرى.. تزدحم فيك وجوههم.. عز الدين القسّام، عبد الله عزام، عماد عقل، يحيى عياش، محمود أبو هنود... وغيرهم... عجباً ما قصة الأولياء في هذا الشتاء الحزين؟
كان الليل سرّ لمعانهم في السماء.. كان الليل قصة معراج أرواحهم إلى الله وكان النهار الذي يقضون ساعته في محراب الجهاد والعمل لا يختلف عن الليل الذي يقضونه في محراب الصلاة؛ فمن المحراب تبدأ رحلة العاشقين لله، منه يبدأ انعتاق أرواحهم من أوثقة الدنيا كل يوم ليلاً يغلقون باب الدنيا ومن سكونه يفتحون أبواب الآخرة الدّفّاقة.. من صوت الدعاء الذي يشقّ السماء ليحكي قصة حنان الله على عباده وقصة حب العباد لربٍ عرفوه.. يا هذا الليل أخبرني كم أعطيت من كنوزك لأرواحهم حتى ما عادت تجد مستقرها ومستودعها في الأرض.. هكذا هم منذ عرفوا الله عقدوا الصفقة معه ذاك أنه نعم الشاري وهم خير من باع... فأسرع الله القبض...
فنُ البيع.. فنٌ رفيعٌ لا يتقنه إلاّ المتجرِدين من أوحال الدنيا المسافرين إلى الله في حلكة الليل وبرد الهجرة وقسوة الطريق وقلة السالكين وكثرة العثرات.. رحلة لا يقطعها إلا من كان الله صاحبه في السفر وخليفته في الأهل..
التجارة صفة العابدين الخلَص:﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾... كانوا يعلمون ن المحراب سرّ خطير لا تلوح به نفوس الصادقين إلا إذا شاءوا أن يعرضوا بضاعتهم للبوار. هم يعلمون أن أزهد الزهد إخفاء الزهد، هم يعلمون أن وجاهتهم في السماء تنقص كلما لمعوا في الأرض فآثروا الخفاء.. آثروا أن يكونوا من الأخفياء الأتقياء...
يا هذا الحزن المتدفق شلال خشوع من أعينهم... يا هذه المعرفة بالله العظيم التي حوتها قلوبهم... يا هذا الطريق الذي قطعوه ترافقهم وصايا رسولهم الكريم.
كانت كل القضية بالنسبة لهم أن يكون رضا الله فقط في ضمير كل واحد منهم وأن يكون الصدق وشاح أرواحهم النقية وأن يكون الجهاد في سبيل الله عبادة شبابهم وكهولتهم.. وهيهات أن تبلغ الجنة إلا عبر صليل السيوف وغبرة الطريق الوعرة... إلا عبر الغربة التي ثبتوا فيها أمام كل الدنيا التي تبرجت في قلوب الذين اشتروها وباعوا آخرتهم...
كانت عيونهم تلمح فجر الجنة ينتظر قدومهم حتى يشرق في سماء أرواحهم... وكانت الدنيا "مزبلة" قذرة ما عادت أرواحهم تطيق بها مكوثاً إلا ذكر الله وما والاه..
لم يعد يلفت انتباههم ثناء أحد أو ذمُ أحد.. كفى بكلمات الله شاهداً لهم... لم يكن يعنيهم سوى الله الذي عرفوه رهباناً في صومعة الحياة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال:"رهبانية أمتي الجهاد".. وصدقوا البيع فصدق الله الشراء.. "أيها الدعاة لا تقنعوا أنفسكم بكتب تقرؤونها وعبادات تؤدونها، إن الذين يظنون أن شجرة هذا الدين يمكن أن ينبت بغير الدماء.. واهمون ولا يعرفون طبيعة هذا الدين" هكذا كانت تنطلق الكلمات فجراً من شفتيه... عزام... ذاك الذي كان يعبد الله بالجهاد في سبيله..
كانوا لا يؤمنون بفلسفة المراحل كثيراً ذلك أن الفرائض لا تنتظر المراحل بل المراحل تنتظر الفرائض وتنتظم على إيقاعها البديع إنه إيقاع رضوان العليم الحكيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إنَ أرواح المجاهدين يمكن أن تتفهّم كل شيء إلا القعود عن الجهاد... ذلك أن القرآن لن يصبح ربيع الدنيا وأن راية الإسلام لا يمكن أن ترفع بثمن بخس.. إن الدماء ولو تدفقت أنهاراً ليس ثمناً لكلمات الله.. إن صناعة الشهادة قدر السعداء الذين استهدفوها..
القسّام لم يحمله العلم على القعود بل حمله على الجهاد... عبد الله عزام كلما علم حمله العلم على الجهاد وكلما جاهد حمله الجهاد على العلم! وبئس العلم علمٌ يقعد بصاحبه حتى ينقضي العمر ولمّا يؤدّي فريضة الله ولمّا يقضها... ﴿كلا لمّا يقض ما أمره﴾!... كان الناس إذا احتاروا سألوا أهل الثغور! ألا ترى إلى فتح الله عليهم؟.. لأنهم على حدود الآخرة..وحريٌ بهم أن لا يروا إلا حقاً..
وماذا عن محمود أبو هنود؟.. يا هذا الجميل.. الذي وقف عابداً في سجن جنيد في نابلس يتلو لحنه الجميل ويجوّد القرآن من قلبه لا من شفته أو حنجرته والصواريخ تسقط حوله وهو قائم يصلي بالمحراب؛ هذا المحراب الذي أثمر لزكريا يحيى الشهيد ابن الشهيد والزاهد النبي العفيف.. هذا المحراب الذي أثمر لمريم عيسى بلا أب حتى يدعى بأمه تخليداً للحظات المحراب الصادقة التي قضتها منقطعة إلى الله عن العالمين.. هذا الانقطاع والهجرة إلى الله التي أعطى الله بسببها لإبراهيم.. إسحق ويعقوب ﴿فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً* واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب﴾... وكم نادت الملائكة أرواحهم في محراب الليل والناس نيام؟ هم أحياء لأنهم ما كانوا يفهمون الموتة الصغرى.. ما كانوا يفهمون النوم... فعندما كان الناس يموتون موتتهم الصغرى كانوا هم يحيلون الليل الميت الساكن حياةً بدفء كلمات الله الحي.. التي يودعونها قلوبهم ويدركون من أسرارها بالليل كل ما حجبه النهار من جمالها الأخاذ..
إن الوقوف في المحراب في الليل هو التدريب والإعداد الحقيقي للوقوف في الصف، ذاك أن الله هو الرامي وهو قاتل الذين كفروا... وكلما وقفوا في صف الجماعة تذكروا أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً...
أوّاه يا عماد.. يا من كنت تقول: إن الرياء أعدى أعدائك وإنك تكرهه أكثر من اليهود... من أين لك يا ابن الثالثة والعشرين بكل هذا الربيع الذي يملأ قلبك وكل هذا الفجر الذي يبزغ من شفتيك ومن يديك؟.. كل القصة أنهم نظروا إلى الدنيا بالعين التي وضعها الله عبر آيات القرآن لهم... كانت الآيات تشرق في أرواحهم أمام لحظات الضعف والشهوات – التي لا بد وإن اعترتهم – فكانوا ينشرون في قلوبهم ﴿وأما من خاف مقام ربِه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾...
كانوا كلما تبرجت الدنيا في عيونهم صارت أرخص تماماً كامرأة عجوز تجهد في بيع جسدها على قارعة الطريق وتسرف في وضع المساحيق على وجهها وكلما تبرجت ازدادت قبحاً وهم يتطلعون إلى الحور العين ما كان هذا الجمال يملأ عيونهم مهما كان بالغ الإغراء في قلوب الذين في قلوبهم مرض...
عفاف يوسف الصدّيق يملأ قلوبهم كيف لا وهم الذين ارتبطوا ارتباطاً شريفاً بحور السماء ﴿وحورٌ عين* كأمثال اللؤلؤ المكنون﴾ إن أجمل امرأة على وجه الأرض إنما هي من طين الأرض... فلا يمكن لهؤلاء أن تتعايش نفوسهم مع الطين.. هم قد ارتفعوا عنه منذ زمن.. هم قد طلبوا من الله حق العودة.. (فحيّ على جنات الخلد فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم)..
هم لا يظنون أن آيات الله ستحكم الأرض على كراسي المحاضرات وأن جهاد الكلمات هو الذي يكلَف صاحبه دمه ودون ذلك فهو كلام... محض كلام..
هم يعلمون أن القنابل ينبغي أن تسبِح بحمد ربها، ينبغي أن تصفع العالم الذي سكر حتى الثُمالة.. ينبغي أن يملأ صداها أرجاء الدنيا التي تأبى أن تركع كرهاً، فإذا بها طوعاً راكعة... ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين﴾ إن الذين يجهلون ربهم إنما هم رجسٌ ونجس ﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾.
﴿ربِ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين* واجعل لي لسان صدق في الآخرين* واجعلني من ورثة جنة النعيم* واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون* يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾.
أما أنت أيها الشهيد الحيّ – يحيى عياش – فقد كان بينك وبين الجهاد قصة حبٍ طويلة... ذلك أن السنابل المثقلة من خلف صمتك حكت لنا حكاية هندسة القنابل التي عشقها...
إنهم رحلوا جميعاً...
أجل... قد رحلوا في قافلة الشهداء... ولكنّ آثارهم الجليلة ثابتة راسخة في الأرض التي سقوها دماءهم... وفي القول؛ كمثل شجرة طيِبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء... تؤتي أكلها كلَ حينﹴ بإذن ربها...
ربّنا اكتب لنا لحاقاً بتلك القافلة المباركة...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة