يا خبر بفلوس
ثَمّة خطب ما يقض مضجع العاملين والعاملات في المؤسسة، ولكن يبدو أنّ أحداً لا يريد الافصاح...
لم تكترث هند وقتها.. وقالت في نفسها: (يا خبر بفلوس بكرا ببلاش).
في اليوم التالي خرج الأمر عن طوره الطبيعي؛ ففي كواليس العمل: شهقات... وحوقلة واسترجاع... ونوبات بكاء... وأحاديث جانبية تُدار بين الموظفات، وحينما كانت هند ترمي ببصرها إليهن كنّ يسكتن.. حتى أصبح االتهامس لا يقتصر على اثنتين دون الثالثة بل امتد ليشمل مجموعة كاملة من الموظفات دون هند فقط التي شعرتْ أنّها طائر منبوذ من سربه...
آلمتها جداً هذه التصرفات... ولفتت إليها نظر زميلاتها فبادرن بالاعتذار، بالمقابل وضّحت لهن هند أنّ الأمر الجلل الذي يُخفينه عنها هي على دراية به بل إنها كانت من أوائل من عَرِف، ولكنها احتفظت بالمعلومات لنفسها...
التصرّف نفسه عاد وتكرّر في مواقف أخرى... وتكرّر تذكير هند لزميلاتها بحرمة هذا الفعل بين اثنتين أو بين مجموعة دون فرد...
وبعد الاعتذار قدمن عذراً أقبح من ذنب.. قلن: " المجالس أمانات.. كيف تريدين منا إخبارك؟"
هند لم تطلب منهن خيانة الأمانة، ولكن أضعف الإيمان بنظرها هو أن يحاولن جاهدات أن لا يظهر (حفظهن للأمانة) على تصرفاتهن وردّات أفعالهن... وبعد ذلك فلتتهامس كل موظفة مع زميلتها أو ليتهامس الجميع بالخبر دونها بعيداً عن مرمى سمعها وبصرها...
من أجل ذرّ الرماد في العيون كلما أرادت زميلة هند في الغرفة أن تجري حواراً خاصاً مع إحداهن كانت تستأذن من هند ودون أن تحصل على موافقتها تبدأ بالتهامس مع الأخرى.
سبحان الله
لم تكن تعرف هند مفاسد التهامس إلا حينما حدثت مثل هذه المواقف وهذه التصرفات معها؛ فتوقفت عن الإتيان بمثلها...
التهامس أصبح للأسف عادة انتشرت فى مجتمعاتنا وكثرت صورها وأشكالها وزادت آلامها، من أمثلة ذلك: التهامس بين اثنتين على الهاتف بوجود أخت ثالثة... ومنها: أن تتكلم اثنتان بلغة لا تحسنها ثالثة إما بالإشارات أو الرموز والألغاز... وأيضاً: كتابة ورقة والأخت الثالثة لا تعلم ما تكتب الاثنتان لبعضهما البعض.. وغيرها من الصور التي لا تخرج عن إطار (التناجي) الذي نهى الرسول (ص) عنه.. ويُعد في أدبيات الذوق العام عيباً...
لما النهي عن النجوى؟
الإجابة من القرآن الكريم: قال تعالى: (إنما النجوى من الشيطان) سورة المجادلة.
وماذا يريد الشيطان بهذه النجوى؟
قال تعالى: (ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً الا بإذن الله ) سورة المجادلة.
فالتناجي يعكّر صفاء الأخوة؛ فهو يبعث في النفس الحزن كما بيّن الله سبحانه وتعالى، وكما ذكر الرسول (ص) في الحديث الشريف الذي يقول فيه:"اذا كنتم ثلاثة فلا يتناجي اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه" متفق عليه. وفي رواية: "فإنَّ ذلكَ يُؤذِي المؤمِن، والله يكْرَهُ أذَى المؤمِن" أخرجه الترمذي، وقال: "حديث صحيح".
وسبب الأذى والإحزان ما ذكره الفقيه والمحدِّث الإمام أبو سليمان الخطابي:"وإنما يحزنه ذلك لأحد معنيين. أحدهما: أنه ربما يتوهم أن نجواهما لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له، أو الإحزان لأجل الاختصاص بالكرامة"* بمعنى كأنّ هذين المتناجيين يقولان بلسان الحال لا بلسان المقال: إنك أيها الثالث الذي نتسارّى دونك لست أهلاً لسماع كلامنا.
فتعريف النجوى حسب ما ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله هو: "من النجوة: وهي المكان المرتفع، كأن المتناجيين بانفرادهما عن الجماعة الباقين ارتفعا عنهما*... مع أنه من المفترض أن يكون ذلك التناجي بعيداً عن الآخرين، مراعاةً لمشاعرهم وللبعد عن كل ما يجرحهم، واحتراماً لأمر الله عز وجل، واقتداءً بسنة الرسول (ص).
كما أنّ تناجي اثنتان دون إذن الأخت الثالثة، وفي حالة عدم وجود جماعة حرام،. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): " لا يحلّ لثلاثة يكونون بأرض فلاة يتناجى اثنان دون الثالث" رواه أحمد .
ولقد قال الإمام النووي في شرحه للحديث: " في الحديث النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث، وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد، وهو نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يُأذن .*
وينبغي في جواز التناجي، أن يكون بإذن الشخص الثالث، ويُراعى أن يكون برضاه التام لا على مَضَضَ وكُره منه، لأن بعض النساء عندما تجلس في مجلس يضم ثلاثة نساء تقول: عن إذنك يا فلانة! وتتكلم مع الثانية بدون أن تأخذ موافقة الأولى ورضاها عن هذا الأمر. والحرص على أن يكون هناك ضرورة قصوى للتناجي كدرء مفسدة خطرها أعظم من مفسدة مشكوك فيها، وهي: إحزان أخ أو أخت مسلمة.
ختاماً: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم ما حرّم ونهى عنه، وأن يوفقنا لاتباع دينه، والتأدّب بآداب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
هوامش
• كتاب (شرح السنة) للإمام البغوي.
• كتاب (كشف المشكل) للإمام ابن الجوزي.
• سنن الترمذي، كتاب الأدب، باب: ما جاء لا يتناجى اثنان دون ثالث.
ثَمّة خطب ما يقض مضجع العاملين والعاملات في المؤسسة، ولكن يبدو أنّ أحداً لا يريد الافصاح...
لم تكترث هند وقتها.. وقالت في نفسها: (يا خبر بفلوس بكرا ببلاش).
في اليوم التالي خرج الأمر عن طوره الطبيعي؛ ففي كواليس العمل: شهقات... وحوقلة واسترجاع... ونوبات بكاء... وأحاديث جانبية تُدار بين الموظفات، وحينما كانت هند ترمي ببصرها إليهن كنّ يسكتن.. حتى أصبح االتهامس لا يقتصر على اثنتين دون الثالثة بل امتد ليشمل مجموعة كاملة من الموظفات دون هند فقط التي شعرتْ أنّها طائر منبوذ من سربه...
آلمتها جداً هذه التصرفات... ولفتت إليها نظر زميلاتها فبادرن بالاعتذار، بالمقابل وضّحت لهن هند أنّ الأمر الجلل الذي يُخفينه عنها هي على دراية به بل إنها كانت من أوائل من عَرِف، ولكنها احتفظت بالمعلومات لنفسها...
التصرّف نفسه عاد وتكرّر في مواقف أخرى... وتكرّر تذكير هند لزميلاتها بحرمة هذا الفعل بين اثنتين أو بين مجموعة دون فرد...
وبعد الاعتذار قدمن عذراً أقبح من ذنب.. قلن: " المجالس أمانات.. كيف تريدين منا إخبارك؟"
هند لم تطلب منهن خيانة الأمانة، ولكن أضعف الإيمان بنظرها هو أن يحاولن جاهدات أن لا يظهر (حفظهن للأمانة) على تصرفاتهن وردّات أفعالهن... وبعد ذلك فلتتهامس كل موظفة مع زميلتها أو ليتهامس الجميع بالخبر دونها بعيداً عن مرمى سمعها وبصرها...
من أجل ذرّ الرماد في العيون كلما أرادت زميلة هند في الغرفة أن تجري حواراً خاصاً مع إحداهن كانت تستأذن من هند ودون أن تحصل على موافقتها تبدأ بالتهامس مع الأخرى.
سبحان الله
لم تكن تعرف هند مفاسد التهامس إلا حينما حدثت مثل هذه المواقف وهذه التصرفات معها؛ فتوقفت عن الإتيان بمثلها...
التهامس أصبح للأسف عادة انتشرت فى مجتمعاتنا وكثرت صورها وأشكالها وزادت آلامها، من أمثلة ذلك: التهامس بين اثنتين على الهاتف بوجود أخت ثالثة... ومنها: أن تتكلم اثنتان بلغة لا تحسنها ثالثة إما بالإشارات أو الرموز والألغاز... وأيضاً: كتابة ورقة والأخت الثالثة لا تعلم ما تكتب الاثنتان لبعضهما البعض.. وغيرها من الصور التي لا تخرج عن إطار (التناجي) الذي نهى الرسول (ص) عنه.. ويُعد في أدبيات الذوق العام عيباً...
لما النهي عن النجوى؟
الإجابة من القرآن الكريم: قال تعالى: (إنما النجوى من الشيطان) سورة المجادلة.
وماذا يريد الشيطان بهذه النجوى؟
قال تعالى: (ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً الا بإذن الله ) سورة المجادلة.
فالتناجي يعكّر صفاء الأخوة؛ فهو يبعث في النفس الحزن كما بيّن الله سبحانه وتعالى، وكما ذكر الرسول (ص) في الحديث الشريف الذي يقول فيه:"اذا كنتم ثلاثة فلا يتناجي اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه" متفق عليه. وفي رواية: "فإنَّ ذلكَ يُؤذِي المؤمِن، والله يكْرَهُ أذَى المؤمِن" أخرجه الترمذي، وقال: "حديث صحيح".
وسبب الأذى والإحزان ما ذكره الفقيه والمحدِّث الإمام أبو سليمان الخطابي:"وإنما يحزنه ذلك لأحد معنيين. أحدهما: أنه ربما يتوهم أن نجواهما لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له، أو الإحزان لأجل الاختصاص بالكرامة"* بمعنى كأنّ هذين المتناجيين يقولان بلسان الحال لا بلسان المقال: إنك أيها الثالث الذي نتسارّى دونك لست أهلاً لسماع كلامنا.
فتعريف النجوى حسب ما ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله هو: "من النجوة: وهي المكان المرتفع، كأن المتناجيين بانفرادهما عن الجماعة الباقين ارتفعا عنهما*... مع أنه من المفترض أن يكون ذلك التناجي بعيداً عن الآخرين، مراعاةً لمشاعرهم وللبعد عن كل ما يجرحهم، واحتراماً لأمر الله عز وجل، واقتداءً بسنة الرسول (ص).
كما أنّ تناجي اثنتان دون إذن الأخت الثالثة، وفي حالة عدم وجود جماعة حرام،. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): " لا يحلّ لثلاثة يكونون بأرض فلاة يتناجى اثنان دون الثالث" رواه أحمد .
ولقد قال الإمام النووي في شرحه للحديث: " في الحديث النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث، وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد، وهو نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يُأذن .*
وينبغي في جواز التناجي، أن يكون بإذن الشخص الثالث، ويُراعى أن يكون برضاه التام لا على مَضَضَ وكُره منه، لأن بعض النساء عندما تجلس في مجلس يضم ثلاثة نساء تقول: عن إذنك يا فلانة! وتتكلم مع الثانية بدون أن تأخذ موافقة الأولى ورضاها عن هذا الأمر. والحرص على أن يكون هناك ضرورة قصوى للتناجي كدرء مفسدة خطرها أعظم من مفسدة مشكوك فيها، وهي: إحزان أخ أو أخت مسلمة.
ختاماً: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم ما حرّم ونهى عنه، وأن يوفقنا لاتباع دينه، والتأدّب بآداب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
هوامش
• كتاب (شرح السنة) للإمام البغوي.
• كتاب (كشف المشكل) للإمام ابن الجوزي.
• سنن الترمذي، كتاب الأدب، باب: ما جاء لا يتناجى اثنان دون ثالث.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة