انطباعات زائر إلى أوروبا
كتب بواسطة الدكتور أحمد أبو الشباب
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1241 مشاهدة
في الوقت الذي أضع فيه هذه السطور بين أيدي القراء الأعزاء فإنّي أرجو ابتداءً أن لا يظنوا بي الظنون، وأن لا يلقوا بي في قفص الاتهام، ظناً منهم أنني من الممكن أن أتحول إلى بوق للدعاية الغربية، التي تصور من خلال إعلامها أن الإنسان الغربيّ متفوق وحضاري، وأنّ مَن عداه يعتريه التخلف والنقصان.
والحق أن الغربي إذا كشفنا عن جوهره الحقيقي، وبغضِّ النظر عن القيم التي يجيدها، سنجده إنساناً لا يعرف إلاّ ديناً واحداً ألا وهو التعبّد للرقي المادّي، أي الاعتقاد بأنه ليس في هذه الدنيا هدف سوى أن يجعل الحياة لنفسه أيسر فأيسر ومتاعاً إلى حين. ولقد أمضيت في أوروبا - متنقلاً بين ألمانيا والدانمرك والسويد - فترة تزيد على عشرة أشهر كانت كافية لتكوين فكرة عن القيم والعادات والتقاليد الموجودة هناك.
وبغضِّ النظر عن السلبيات والمساوئ التي تعتري المجتمعات الأوروبية، إلا أنني عندما وقفت على تلك القيم شعرتُ بالإحباط وخيبة الأمل، على اعتبار أننا أَوْلى بها من هؤلاء.
وكان من البدهي أن أستحضر مقولة الشيخ محمد عَبْده -غفر الله له- عندما زار أوروبا في أيام محمد علي باشا حيث قال: (لقد رأيت مسلمين من غير إسلام) وهو يشير إلى القيم والقوانين والتنظيمات الإدارية التي عاينها هناك.
لقد اضطُررت للسفر إلى ألمانيا على أمل أن أجد علاجاً مناسباً لمرض الشلل الرعاشي Parkinson الذي ابتُليتُ به منذ عدة سنوات، بعد أن انسدّت السُّبُل في وجهي، وبات من المتعذر متابعة العلاج في لبنان، لضخامة التكاليف المترتبة عليه.
وما إنْ وصلتُ إلى ألمانيا عن طريق بولندا، وبعد أن تقدّمتُ بطلب اللّجوء في مدينة كيل، حوّلتني شرطة الأجانب إلى مقرّ للّجوء في مدينة لوبيك، وما إنْ وَقَفَتْ الطبيبة هناك على حالتي الصحية التي كانت متردّية إلى حدّ كبير حتى حوّلتني إلى جامعة لوبيك حيث أشرف على علاجي البروفيسور (كمف هجناة) أشهر طبيب لعلاج الباركنسون في ألمانيا، وقضيت في المستشفى عشرين يوماً، أتلقى العلاج الذي اكتشفت مؤخراً أن ثمنه يزيد على ألف وأربعمائة وخمسين يورو. وفي هذه الأثناء قفزتْ إلى مخيلتي مشاهد المرضى والجرحى الذين كانوا يلفظون أنفاسهم على أبواب المستشفيات في لبنان لأنهم لم يتمكنوا من دفع مبلغ التأمين وتكاليف العلاج! ومما زاد من دهشتي أنه عندما تم نقلي إلى مدينة (أولرنبورغ) على الحدود مع الدانمرك، كنت أتعرّض لبعض الانتكاسات في ساعة متأخرة من الليل، فيحضر الطبيب إلى المنزل بعد الاتصال به في وقت لا يزيد على عشر دقائق، فيقدّم لي العلاج المناسب، ولا يتركني حتى يطمئن على حالتي الصحية.
كنت أتتبّع تلك المواقف وغيرها بكثير من الدهشة، وأسأل نفسي في كلّ مرة: هل هؤلاء أَوْلى منّا بهذه الأخلاق؟!
ولئن كانت الإجابة بالنفي، إلا أن الأوروبيين في حقيقة الأمر اجتهدوا على اكتساب هذه القيم التي اقتبسوها دون أدنى شك من تعاليم الإسلام وقِيَمه الخالدة، بينما نحن المسلمين تخلينا عنها إلا القليل منا، وعكفنا على كل ما هو سيّئ من عاداتهم وتقاليدهم حتى صدق فينا قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: «لتَتّبِعنّ سَنن مَن قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جُحر ضَبٍّ لَدخلتموه». قيل: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن غيرهم؟!».
يضيق المقام لبسط القول حول القيم التي وجدتُها هناك، لكنني أريد أن أقف عند بعضها لأضعها بين أيدي القراء الأعزاء، لعلهم يلتمسون منها العبرة والموعظة والدرس، لحاضرهم ومستقبلهم.
1- من أبرز ما وقفتُ عليهظاهرة النظافة التي تمثل علامة فارقة، ومَعْلماً بارزاً من معالم الثقافة الأوروبية، ولا زلتُ أذكر أنني عندما ذهبتُ من وارسو إلى برلين لم أصادف وجود ورقة واحدة أو زجاجة فارغة على طول الطريق التي يزيد على ألف كيلو متر. وبدا لي من خلال المعايشة اليومية أن المواطنين يتعاونون فيما بينهم من أجل بيئة نظيفة، حيث يقتنون مستوعبات خاصة للورق والكرتون والزجاج، وأخرى لبقايا الطعام، وعند تفريغها في مكبات النفايات يتم إفراغ كل مستوعب في مكانه المخصص.
2- أكثر ما لفت انتباهي هناك:القوانين والتنظيمات الإدارية، وفي مقدمتها نظام السير الذي بلغ قمة الرقي والانضباط، وطيلة المدة التي قضيتها هناك لم ألحظ أن سائقاً استخدم منبِّه السيارة أو الضوء القويّ ليلاً، وبمجرد أن تمشي في الطرقات تدرك أن كل مواطن يعرف ما له وما عليه، لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى رجال الأمن لتنظيم السّير، ومن النادر أن تشاهد رجال الشرطة كما هو الحال في بلادنا.
3- بلغ من أمانة القومهناك أن بعض المراكز التجارية، التي تغلق أبوابها عادة عند الساعة التاسعة مساءً، تُبقي بعض البضائع معروضة في الخارج، وقد يمرّ الزبون ليلاً، فيتناول ما يحتاج إليه منها، ويضع ثمنه في وعاء مخصّص، ويستردّ بقية ما دفعه من مال، ولا أحد يطّلع عليه إلا الله، دون وجود كاميرات للمراقبة.
4- أما عنالالتزام بالنظام والوقت والمواعيدفحدّث ولا حرج، فقد لاحظتُ أن المواطنين في الغالب لا يتزاحمون في الأماكن التي يحدث فيها الزحام عادة، سواء في الطرقات عند وقوع الحوادث، أو عند الصعود إلى الباصات والقطارات، أو في المراكز التجارية والبنوك عند الصندوق.
وبعد... فهذه بعض الصور المشرقة التي عاينتها خلال إقامتي طيلة هذه المدة في أوروبا، يشهد الله أنني نقلتها بأمانة وموضوعية وحياد ونزاهة، لا لأتغنّى بها، بل لأضعها بين أيدي القراء الأعزاء ليلتمسوا منها العبرة والموعظة والدرس، فلعلّ وعسى أن تنتشر في مجتمعاتنا هذه القيم، الأمر الذي يمكن تحقيقه، لأننا نملك كل الإمكانات، لكننا نفتقر إلى الإرادة، على أن يتحمّل كل فرد نصيبه من المسؤولية، بما في ذلك الحكومات التي يجب عليها أن تضطلع بمسؤولياتها تجاه شعوبها في مجال التنمية، وأنا على يقين بأننا نستطيع الوصول إلى ما هو أفضل لو توافرت الإرادة، اللهم هل بلّغت؟! اللهم فاشهد.
***
* "منبر الداعيات":كل ما تقدم من عناية بالذوقيات والأخلاقيات لا يغطّي عورات المجتمع الغربي بكل ما فيه من جريمة منظّمة ومن إفساد للمجتمع بالفلتان في العلاقات الجنسية بما يفوق الحيوانية، وبالترويج لذلك في وسائل الإعلام، ومن ظلم للإنسان في مختلف بقاع الأرض وبالأخص في العالم الإسلامي رجالاً ونساءً وأطفالاً، ومن نهب لثرواته، وتدمير لبيئته بالغذاء الملوث والنفايات المشعّة المحظورة عالمياً، ومن ادعاء كاذب بحماية حقوق الإنسان التي ظهرت بصورة جلية في معتقلات غوانتنامو وأبو غريب والسجون الصهيونية وغيرها... ولكنها كانت لفتة نخاطب من خلالها المسلمين أنْ عودوا إلى ما ألزمَنا إياه الإسلام من أدب ومن خُلُق رفيع لنكون شامة بين الناس، ولنبرز تلك الصورة المشرقة عن المجتمع الإسلامي، ولنعلِّم الناس بأننا في ديننا لا نستغني بالمظهر عن الجوهر، وبأن العقيدة السليمة والمنهج القويم لهما الكلمة الفصل، ثم يتوِّجُهُما أدبٌ جم وخُلُقٌ مستقيم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن