أيام في الدنمرك
شددتُ الرحال من مدريد إلى كوبنهاجن بدعوة من الإخوة المشرفين على جامعها هنالك للمشاركة في مؤتمر عُقد بعنوان "المؤسسات الإسلامية وسبل التواصل مع المجتمعات الغربية" وذلك في جمادى الأولى من سنة 1432/ ابريل 2011، وقد كانت تلك الزيارة هي المرة الأولى التي أطأ فيها تلك البلاد، والدنمرك هي إحدى الدول الاسكندنافية الخمس: هي والسويد والنرويج وفنلندا وايسلندا، وسكانها خمسة ملايين تقريباً، نسبة المسلمين قرابة أربعة بالمائة، ويدين سائر السكان بالنصرانية والمذهب البروتستانتي، لكنهم على الحقيقة في أكثرهم ملحدون، نسأل الله العافية، وقد زرت السويد مرتين، وتحدثت عنها في حلقة سابقة .
والدنمرك تعاني مما تعاني منه سائر الدول الأوروبية من إلحاد في الدين، واستمراء للفواحش، وانتشار ثقافة العري، وتفاهة في أهداف الناس وطرائق استجمامهم، وتفكك في الأسر، وعقوق في الأبناء، لكن المصيبة كل المصيبة أن كثيراً من أولاد المسلمين بدأ يسلك مسلك أولئك ويحذو حذوهم، حتى أن أحد الصالحين العاملين الدعاة من المغاربة المقيمين في الدنمرك وهو الأستاذ مصطفى الشنضيض أخبرني أنه اعتاد أن يؤم أماكن تجمع الشباب المسلم لدعوتهم إلى الله تعالى، فقصدهم يوماً فإذا هم قرابة العشرين، فطلب منهم أن ينطقوا الشهادتين ليختبر معرفتهم بها فعجز أكثرهم عن إكمالها!! وسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستطع سبعة منهم أن يذكروا شيئاً عنه بل إنهم جهلوا عنه كل شيء حتى اسمه!! وقد أخبرني أن هذا الضعف في المعلومات الأساسية عن الإسلام كثير منتشر في طبقات من الشباب المسلم في الدنمرك، وقد خبر ذلك بنفسه، واطلع عليه مراراً وتكراراً، وهذا أمر أهمني إلى الغاية، وضيق صدري؛ وذلك أن هذا الجيل الجديد إذا ضاع وذاب على هذا النحو فإن مستقبل المسلمين في تلك البلاد لا يبشر بالخير، ولهذا كله فإني حرصت على تنبيه الناس على هذا الأمر الخطير، فقد خطبت الجمعة وحاضرت الناس ثلاث مرات، وذكرت لهم أهمية المحافظة على دين الأولاد، فإن خاف الأب على أولاده وغلب على ظنه أنهم سيضيعون في المجتمع ويذوبون فيه فإن الواجب عليه أن يعود إلى بلاده، ولا يحل له شرعاً البقاء، فإن الدين أغلى شيء وأهم شيء وقبل كل شيء فإن ضاع فماذا يبقى للناس بعد ذلك؟
أما اللغة العربية فحدث عن ضياعها في الجيل الجديد ولا حرج، فقد مررت بأطفال يتحدثون مع بعضهم بعضاً باللغة الدنمركية، فكلمت آباءهم أن ينهوهم عن هذا ويأمروهم بالتحدث بالعربية فوجدتهم عن هذا المعنى غافلين، وقد تكرر هذا مراراً في أماكن مختلفة فوجدت الأمر على ما ذكرته لكم فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ فإن أولاد العرب إذا رطنوا برطانة الأعاجم ونسوا لغتهم أو لم يتعلموها أصلاً فإن الجيل ينشأ منفصلاً عن مصادر دينه من كتاب وسنة وكتب الثقافة والدعوة والتربية، ولئن قال قائل إن كل ذلك مترجم، فأقول: ليس كل كتاب مترجماً، ثم إن قراءة القرآن بالعربية لها لذة وتأثير جليل في النفوس لا يُحدثه أبداً معاني القرآن المترجمة، ولماذا نضيع عربية الأولاد ولا نحافظ عليها؟ أهو الكسل؟ أم التهاون؟ أم الاستسلام للأمر الواقع؟! وقد نبهت على ذلك في الخطبة والمحاضرات الثلاث أيضاً، ولقد وجدت أن العربية في تلك البلاد لا بواكي لها، والقوم غافلون عن خطورة نسيان أولادهم لها، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهذه آفة لا تقتصر على الدنمرك بل هي منتشرة في كل بلاد أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا، ولقد شاهدت ذلك وسمعته ونبهت عليه مراراً .
ويبدوا أن تزاحم الأعمال على الإخوة مدراء المراكز الإسلامية في الدنمرك جعلهم يغفلون عن قضايا مهمة أساسية لابد لهم من الأخذ بها، وذلك نحو التنسيق الجيد مع المراكز الأخرى، وإقامة رحلات جماعية للحج والعمرة وذلك لربط الجيل الجديد بمقدساتهم وإخوانهم، وإنشاء مدارس للبنات، والعجيب أني عندما طرحت هذا الأمر على الناس في المحاضرات الثلاث وجدتهم لم يفكروا فيه أصلاً ولم يخطر ببالهم فبينت لهم خطورة ذهاب البنت المراهقة والبالغة إلى مدارس مختلطة تنعدم فيها معاني العرض والشرف، فكأني أيقظت الناس من سبات عميق، ولعل اعتيادهم هذا المنكر جعلهم لا يفكرون في سبل تلافيه على وجه يحفظ لهم بناتهم ويصونهن عن السوء، وليس مرد هذا العجز نقص المال فالقوم هنالك ميسورو العيش -في الجملة- ولا يعجزهم هذا الأمر لو أرادوه لكنها الغفلة والتهاون، نسأل الله العافية .
ولقد لقيت في هذا المؤتمر الأستاذ الفاضل والداعية الموفق المغربي أبا زيد المقرئ الإدريسي الذي أثرى المؤتمر بكلماته النافعة وإرشاداته الجامعة، وكان من المحاضرين كذلك الأستاذ صلاح الدين النكدلي، وهو شامي يعيش في آخن بألمانيا، وكان مقرئ المؤتمر شاب حافظ دمث الخلق من ستراسبورغ بفرنسا يدعى عماد الأكرمين، والمؤتمر قام عليه رجال أفاضل أخص منهم بالذكر الأخ المختار ذيريوح المغربي الذي لم يترك شيئاً يُدخل السعادة والراحة عليّ إلا وصنعه، وأنزلني وزوجي وولدي في بيته الجميل الريفي، وأتعب نفسه وزوجه من أجلنا فجزاه الله خيراً، وكذلك الأخ أنور والأخ إبراهيم كانا ممن قام على المؤتمر وبذلا جهداً لإنجاحه فجزى الله الجميع خيراً .
وإن كنت معاتباً أحداً فإني أعاتب أهل كوبنهاجن على عدم الاكتراث بالمؤتمر وحضور قلة قليلة منهم إليه، وهذا عقوق للإخوة العاملين الذين أتعبوا أنفسهم من أجل إقامة هذا المؤتمر، وجحود لفضلهم، لكن هذه آفة كثير من المؤتمرات التي حضرتها في أوروبا، وقد بينت ذلك في حلقات قبل هذه، والله المستعان .
المصدر : موقع التاريخ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن