أيام في السنغال
السنغال دولة إسلامية مركزية مهمة في غرب افريقيا، يحدّها من الغرب المحيط الأطلسي، ومن الشمال موريتانيا، ومن الشرق مالي، ومن الجنوب غينيا كوناكري وغينيا بيساو، ونهر السنغال هو حدودها الشمالية والشرقية الطبيعية، وسكانها 95% منهم مسلمون و3% نصارى، و2% لادينيون، والعرقيات في السنغال كثيرة منها الوُلوف والفولان (الفلاتة).
وقد استقلت عن فرنسا سنة 1380هـ/1960م وصارت عاصمتها دكار، وسكانها حوالي 14 مليون ومساحتها 196 ألف كم2 تقريباً، وثروتها -تعتمد بفضل الله تعالى- على الفوسفات والسمك وتراب الحديد .
وقد دخلها الإسلام في القرن السادس الهجري/ الحادي عشر الميلادي على يد قبيلة صنهاجة التي كان مقرها ما يعرف اليوم يموريتانيا، وقيل على يد عبدالله بن ياسين تحديداً .
وقد جئتُ تلك البلاد عن طريق المغرب الأقصى، التي وصلتها في الصباح الباكر، ولقد علمت في الطائرة أن هنالك معرضاً دولياً للكتاب في الدار البيضاء، ولما كانت الطائرة المقلعة إلى دكار عاصمة السنغال ستقلع بعد المغرب رأيت أن أزور المعرض، فوجدته صغير المساحة إذا قورن بمعرض القاهرة، لكني أستفدت مما فيه من كتب مغربية لا أكاد أجدها في أي مكان آخر، ومشكلتي في هذه المعارض اجتماع الناس عليّ، وطلبهم التصوير معي، وسؤالي عن الصحة والأهل والأولاد، وسؤالهم الدعاء، وعرض بعض المشكلات الخاصة والطلبات ولا تمضي خمس دقائق حتى تعاد الكَرّة من جديد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أصعب الشهرة، وما أفدح ثمنها، وكم تمنيت ألا أُعرف حتى أكون حراً أتحرك كما أريد لكن قدر الله وما شاء فعل .
وجدّدتُ العهد في الدار البيضاء بثلة من كرام الإخوة وتغديت معهم، ثم ذهبت إلى المطار وأقلعت الطائرة إلى دكار فوصلت نصف الليل، وكان في استقبالي جماعة من الفضلاء منهم الشيخ مالك وهو طالب علم وداعية سنغالي، له حظ من العلم والأدب، وكذلك اثنان من الدعاة المصريين من ذوي الأدب والفضل لم أعرفهما من قبل، وأُخذت إلى الفندق، فأخلدت إلى النوم بعد رحلة طويلة من جدة إلى دكار، وفي الصباح اجتمع مجموعة من المشايخ والدكاترة الشرعيين والدعاة وطلبة العلم في مسجد من مساجد دكار لأجل دورة شرعية في أصول التفسير وعلوم القرآن، وكان لقاءً جيداً -بفضل الله تعالى- طوفت بهم على علوم القراءات، والإعجاز بأنواعه، وأنواع التفسير، وذكرت بعض الشبهات وحللتها لهم، ثم ختم اللقاء بمحاضرة في "رسالة القرآن في الحياة" وأجبت على أسئلتهم المتنوعة، وخُتمت الدورة بإلقاء قصيدة ترحيبية من بحر البسيط، ألقاها أحد طلبة العلم بطريقة فصيحة ومخارج صحيحة، وطلب مني أن أقرأ لهم شيئاً من القرآن العظيم ففعلت، ثم غادرت المكان إلى بلدة أخرى أُقيم فيها حفل عشاء، واجتمعت بمجموعة من الدعاة وطُرحت بعض الآراء والاقتراحات في شؤون الدعوة، وفي صباح ثالث يوم من الزيارة توجهت لبلدة لُوجا لزيارة مركز جماعة عباد الرحمن، وفي المركز مدرسة ابتدائية تحوي قرابة 400 طالب وطالبة، يدرسون بالعربية والفرنسية، واستمعت لقراءتهم القرآن وأناشيدهم الإسلامية المؤثرة النافعة، وفي المركز مستوصف رَثّ الحال، قليل دواؤه، لكن يبدو أنه ليس في الإمكان أبدع وأحسن مما كان، وفي المركز مسجد يكاد سقفه يسقط، واجتمع فيه مجموعة تكلمت معهم في شأن العناية بالطلاب وإعدادهم ليكونوا أعمدة في مجتمعهم، وحدثتهم عن أهمية إيجاد صلة حسنة بسائر الدول العربية والإسلامية، ولأن الشعوب العربية والإسلامية لا تكاد تعرف عن السنغال شيئاً .
وضربت لهم مثلاً فلسطين التي تغيّر تاريخها الحديث كله على يد الصبية والغلمان الذين عُني بهم الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من حوله حتى استطاعوا -بفضل الله تعالى- أن يغيروا بأولئك الصبية تاريخ فلسطين والمنطقة كلها .
ولقد عَرّجت في يومي ذاك على مدارسَ عدة، وتحدثت مع إدارتها وبعض طلابها لكني وجدتها في حال رثة تحتاج إلى عناية بالغة من كل الوجوه فأين أغنياء المسلمين .
ولقد حدث شيء أثار حزني وهو أني كنت في فصل من الفصول أختار طلاباً ليقرأوا القرآن، وبعد أن تلا بعض الطلاب وقع بصري على جارية صغيرة فطلبت منها القراءة فتتعتعتْ قليلاً فأسكتها بعض مرافقي بقوله: هي معوقة، فأخذت البنت في البكاء فحزنت لهذا التصرف من الأخ -هداه الله تعالى- فبعد أن قرأت جارية أخرى طلب أحد مرافقيّ منها أن تقرأ الفاتحة فقرأتها بصعوبة فسُرِّي عني بعض ما وجدته أولاً في نفسي .
وأولئك الطلاب والطالبات الذين رأيتهم هم نبتة حسنة يجب أن تُرعى حتى تستوي على سوقها وتؤتي أحسن الثمار، إن شاء الله تعالى .
وفي اليوم الرابع من الزيارة زرت "معهد الدراسات الإفريقية" ومديره الدكتور خديم امبيكي أحد المثقفين البارزين في السنغال، وهو ممن درس في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية المنورة، ونال الدكتوراه من السربون، وأطلعني على نشاط المركز وما فيه من كتب ومخطوطات .
ـ وبعد ذلك ذهبت ومرافقيّ إلى جزيرة غوري، وهي جزيرة قريبة جداً من دكار لا تبعد أكثر من 15 دقيقة بالباخرة البطيئة، وهي الجزيرة التي كان البرتغاليون والإسبان والإنجليز وغيرهم يرسلون إليها مَن سرقوهم من الأفارقة من بلدان غرب افريقيا ويصدّرونهم بعد ذلك إلى أمريكا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول، ولقد سَمّيْتُ تلك الجزيرة جزيرة الأحزان؛ فكل ما فيها يشي بالظلم الهائل الضخم الذي نال الأفارقة، فالجزيرة بها عدد من البيوت التي هي أشبه بأقبية وغيران منها بالبيوت، ودخلت واحداً منها فوجدته لا يصلح للبهائم، وكان سماسرة العبيد يأتون بمن سرقوهم من بلادهم وأهلهم، وأول ما يصنعونه أن يعزلوا الكبار عن الأطفال، والنساء عن الرجال، والنساء الأبكار عن الثيبات، ويحشرونهم حشراً في زنازين مصفوفين فيها كالسردين أشباه عراة، أما الصغار فهم عراة تماماً، وينامون على الأرض فيموت كثير منهم، وأما من لم يبلغ وزنه ستين كيلو جراماً من كبار الذكور فإنهم يحشرون في زنازين، ويطعمونهم الفول والسمن حتى يسمنوا ليكونوا مستعدين لأعمال العبودية، ومن تمرد من الشباب الأقوياء حُشر في زنزانة لا يمكن أن يقف فيها، ويبقى مدة حتى يتأدب، ولقد رأيتها فإذا هي شبيهة بالغار، ويمكث فيها السجين مدة شهر ليتأدب، فإذا خرج لا يستطيع الوقوف السوي لمدة بسبب ضيق الزنزانة !!
وإذا أراد أحدهم الهرب فإما أن يُقتل أو يأكله القرش في البحر، فإذا جاء وقت ترحيلهم يحشرون في السفن حشراً عجيباً، فإذا اضطربت السفينة في البحر وخُشي عليها من الغرق أخرجوا من لم يرغبوا فيه من العبيد ورموهم في البحر!! وأعداء الله لا يرمونهم هكذا بل يربطونهم مجتمعين بسلاسل ليغرقوا من الثقل ولا يبقى لهم أي أمل في الحياة!! ويموت كثير منهم في الطريق للأمراض التي تصيبهم بسبب حشرهم كالبهائم، فمن وصل منهم حياً فإن الكبير يباع ببندقية أو ببرميل خمر، وأما الصغير فيباع بمرآة!! وقد بلغ من مات من المستعبدين بسبب المرض أو سوء التخزين!! ستة ملايين !!.
وذكر لي الدليل السياحي من الحوادث الشيء العجيب وتذكرت قول الله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، وتاريخ الغرب الأسود في استعباد عشرين مليون افريقي ينقض كل ما يتشدقون به من أن الحضارة الغربية هي التي أهدت للشعوب المدنية والحضارة، فإنهم كانوا وما زالوا يذيقون الشعوب سوء العذاب، ويتآمرون عليها ويكيدون لها، ويسلبون ثرواتها، بكل ما يستطيعون الوصول إليه من وسائل دنيئة بل دنيئة جداً، لكن كل الشواهد تدل على أن انتقام الله -تعالى- من الظلمة الغربيين قريب بل قريب جداً فالانهيار الاقتصادي والضعف السياسي المصاحب له أول نذر الانهيار، وإن غداً لناظره قريب .
وقد كان لي لقاءات أخرى عديدة في دكار وغيرها من مدن السنغال، ورجعت إلى بلادي سعيداً بتلك الزيارة، سائلاً الله -تعالى- أن يكتب ما قلته وما فعلته في ميزان حسناتي، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
المصدر : (موقع التاريخ)
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة