الأثر التربوي للحَجّ على شخصية المسلم - مع الداعية خولة عابدين
كتب بواسطة حوار مع الداعية الأستاذة خولة عابدين
التاريخ:
فى : حوارات
1431 مشاهدة
يرسم المنهج الإسلامي للمسلم شخصيته بمختلف جوانبها وأبعادها حتى يحقق هدف وجوده في الحياة من ناحية: )وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون(، ولكي يتمكّن من القيام بأعباء التكليف العظيم المنوط به: عمارة الأرض وقيادة البشرية وفق منهج الله... والحج أحد أهم العبادات التي تصوغ الشخصية الإسلامية بما يشتمل عليه من جوانب عَقدية وروحية واجتماعية... وفي الحوار مع الداعية الأستاذة خولة عابدين من عمّان سنتعرف على ما للحجّ من آثار تربوية على شخصية الإنسان المسلم.
1. «منبر الداعيات»: الحج رحلة إيمانية عميقة الأبعاد: كيف يؤصِّل الحج في نفس المسلم العقيدة الإسلامية بصفائها وجلالها؟
الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة مَقصدها الامتثال لله والوفاء بحقِّه تعالى الذي قال: (الحجُّ أشهرٌ معلومات فمن فرَضَ فيهنّ الحجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جدال فيالحج).
وإخلاص النية لله شرط في صحة وقَبول أي عبادة، ومنها الحج، فيجب البُعد عن الرياءلأنه يُحبط العمل، ويجب الحرص في العبادات على متابعته؛ فكل عبادة لاتُقبل إلا إذا توافر فيها شرطان: الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: (فاعبد الله مخلصاً له الدين)، وقال: (... فاتّبعوني يُحبِبْكُمُ الله).
ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتحقق إلا بمعرفة الأركان والواجباتوالالتزام بها دون زيادة أو نقصان، لأن الأصل في العبادات الامتثال والاقتداء؛ قال رسول الله _: «مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد». هكذا نجد أنّ الحج يؤصِّل في النفوس العقيدة الصحيحة بجلالها وصفائها.
2. «منبر الداعيات»: ما أبرز المكتَسَبات الروحية التي يظفر بها الحاجّ؟ وكيف له أن يحافظ على ما جناه من هذه العبادة العظيمة في مستقبل أيامه؟
المكتسَبات الروحية في الحج كثيرة لأن الرحلة من الأصل رحلة خالصة لوجهالله. ومن هذه المكتسبات: ذكر الله كثيراً وشكره، فالحاجّ لا ينقطع عن ذكر الله من اللحظة الأولى من هذه الرحلة، لأنه في رحلة تعبُّدية روحية يرتقي بها إلى ربِّه سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: (فاذكروني أذكُرْكم واشكروا لي ولا تكفرون). بل من أجلهما - أي الذكر والشكر لله - خلق الله الليل والنهار وجعلهما خِلْفة لمن أراد أنّ يَذَّكَر أو أرادشُكوراً. وذِكر الله يكون بالقلب وباللسان، وشكر الله بالقلب واللسان والسلوك؛ قال تعالى: (واذكروا الله في أيامٍ معدودات)، ومن أجل تحقيق الذكر والشكر شُرعت الشرائع والشعائر... وهذه هي الروحانية التي يحصل عليها الحاج: ذكرٌ متواصل وشكرٌ يملأ القلبوالنفس؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الطواف بالبيت والسعي بينالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»، فترتقي روح المؤمن في الحج عندما يعلم ويوقن أن حجّه يرقىبه إلى الجنات؛قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة». هذا بالإضافة إلى العتق من النار؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فلم يُرَ يومٌأكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة». وترتقي روح المؤمن إذا أيقن أنه بالحجِّ يتخلص من كل ذنوبه؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفَقر والذنوب كما ينفي الكِيْر خَبَث الحديد والذهب والفضة»، وترتقي روحهأيضاً عندما ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله وابتغاء التقرّب إليهسبحانه وتعالى؛ حتى يَهون المال وتَهون الدنيا بِأَسرها أمام مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وبالحج يتحمّل المسلم المصاعب والمشقة والأذى والسوء في سبيلمرضاة الله عز وجل،وفي هذا تربية للنفس على جهادها لترتقي إلى ربها؛فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نُجاهد؟قال: «لَكُنّ أحسن الجهاد: حجٌّ مبرور». وبالحج يبدأ المؤمن صفحة جديدة فيحيا مع ربِّه؛ ذلك لأن في الحج انتقــــالاً ســــريعــاً بـين المنــاســـــك استجابةً لأوامرالله وكما شرع تعالى، فيتربّى المؤمن حالاً ومقالاً على: «سمعنا وأطعنا».
والحاجّ الذي وفقه الله للحج فحصد الإيمانيات السابقة الرائعة سيحافظ عليهابعد ذلك - ولا بدّ - بدوام العلاقة مع ربِّه؛ فهو ينتقل من حَسَنة إلى حسنة ومن طاعة إلى طاعة ومنحرص على مرضاة الله إلى حرص على رضا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما قيل: إن الحسَنَة تجلب الحسنة، فمن أعتقه الله من النار سيعود طائعاً متقرباًإلى الله ومراقباً لله، فيحافظ على مكتسباته الإيمانية.
3. «منبر الداعيات»: لا رفَثَ ولا فسوق ولا جدال في الحج؛ من خلال هذا التوجيه الرباني: كيف للحاج أن يربّي نفسه على ضبط شهواته وتهذيب أخلاقه؟
قال تعالى: )الحجُّ أشهرٌ معلومات فمن فرَضَ فيهنّ الحجَّ فلا رفَثَ ولا فُسوق ولا جدال فيالحج(; فمن أحرم بالحج يجب عليه تعظيم هذه الشعيرة وصَوْنها عن كل ما يُفسدها من شهوات وسوءأخلاق; فلا رفث: أي الجماع ومقدماته والكلام الفاحش، ولا فسوق: أي ولا معصية كعقوق الوالدَيْن وقطيعة الرحم وأكل الربا والغِيبةوالنميمة... ولا جدال: أي لا مخاصمة ولا منازعة ولا مماراة بغير حق.
فالحج مدرسة تربوية للمسلم ليهذِّب شهواته وأخلاقه. وهذا التهذيب، الأصل فيه أن يكون في كل زمان ومكان، ولكنه يظهر في الحج أكثر للتذللوالانكسار لله والتقرب إليه تعالى أكثر، فيكون حجاً مبروراً جزاؤه الجنة.
إذن، فالحجّ للمسلم دورة ليصبح سيد نفسه وسيد شهواته وسيد أخلاقه،لا عبداً للشهوات والأهواء.
4. «منبر الداعيات»: ختاماً، كيف ينبغي أن تتجلى روح المسلم الاجتماعية في الحج؟
قال تعالى: )ليشهدوا منافع لهم(، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: المنافع هي منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافعالآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائحوالتجارة وغيرها...
وتتجلى روح المسلم الاجتماعية في الحج في النواحي الآتية:
■ وَصْل حاضر الأمة بماضيها - المضيء نوراً - إلى أبينا إبراهيم عليه السلام.
■ سقوط الشعارات الزائفة التي تجعل التفاضل بين الناس حسب أجناسهم وألوانهمومكانتهم في الدنيا؛ ففي الحجتذوب كل الفوارق وتتحقق المساواة بين الجميع: )إن أكرمَكم عند الله أتقاكم(.
■ توحيد كلمة المسلمين وجَمع شملهم تحت راية التوحيد، وشعارهم جميعاً «لبيكاللهم لبيك».
■ تبادل المنافع التجارية والاقتصادية، وتبادل الخبــــرات لتحقـيــق التكـــامـــل بـينبلــدان العــالــم الإسلامي.
■ تَعَلُّم الحاج التضحية والبَذْل والعطاء والجهاد بالمال والجهد والوقت.
وأخيراً، بعد أن منَّ الله عليّ بأداء مناسك الحج مرتين في حياتي، أدركتُ أنّ الحججهاد النساء لما فيه من الجهد والمشقة والتزاحم، وأدركت أن أمتنا يجب أن تعرف أنّ الحج أجمل وأروع رحلة في الحياة: رحلة إيمانيةخالصة لله من أولها الى آخرها، فيجب أن تُقضى كلّها في الطاعات والقُرُبات لا في الأسواقولا في السهرات ولا في الغِيبة والنميمة!!!
وأدركتُ أمراً في غاية الخطورة: أن النظافة في الحج أمر ضروري جداً، فهو مظهر حضاريلا يستلزم من الحاج إلا كيساً ليضع فيه كل ما يريد التخلص منه، لنثبت للعالم أنّ:الطُّهور شطر الإيمان. تقبّل الله من الحجاج وأرجعهم سالمين غانمين مغفوري الذنوب.
***
«منبر الداعيات»: نشكر ضيفتنا على هذا اللقاء الطيِّب، سائلين الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على راية التوحيد كما يجمعهم في البلد الحرام على مدار العام، وأن يرزق المسلمين حجّاً روحياً خالصاً دائماً إلى الله قبل الحج.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن