عائلة الحافظ ابن حَجَر علمية بامتياز
نساء عبر التاريخ
إنّ مكانة الإمام الحافظ ابن حَجَر العَسْقلاني العلمية التي وصلت إلى حدِّ إطلاق العلماء عليه لقب (خاتمة أمراء المؤمنين في الحديث) بالإضافة إلى سموِّ خُلُقه وأدبه الجَمّ، مما جعل أقلام العلماء من شيوخه وأقرانه وتلاميذه ومَن بعدهم تفيض ثناءً عليه.
فهذا الإمام الحافظ بالرغم من كثرة انشغالاته، لم يُهمل أهل بيته، فلقد كان حريصاً أشد الحرص على نشر العلم بينهم، وكانت له عناية فائقة بتدريس زوجاته وبناته الحديث النبوي، وبرزت غير واحدة بإتقان هذا العلم واشتُهرت بالرواية؛ منهن:
زوجته أُنْس ابنة القاضي
كريم الدين ناظر الجيش
تزوّجها الإمام ابن حجر بإشارة من وصيِّه العلاّمة ابن القطّان، فحصَل لها بواسطة ذلك خيرٌ كثير.
أَسمَعَها زوجها من شيخه حافظ العصر عبد الرحيم العراقي «الحديث المسلسل بالأولية»، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلاّمة ابن الكويك، وأجاز لها باستدعاء عدد من الحُفّاظ. وقد لمع نَجم أُنْس هذه في علم الرواية حتى يُقال إنها المرأة الوحيدة التي كان لها مجلس تحديث في مسجد عَمْرو بن العاص في مصر، وكان زوجها في بعض الأحيان يداعبها بقوله: «قد صرتِ شيخة». وقد حدّثت بحضور زوجها، وقرأ عليها الفُضلاء، ويُقال إنه أُحصي في مجلسها ألف محبرة، وقد خرّج لها السخاوي أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً وقرأها عليها بحضور زوجها، ولما مات الحافظ ابن حجر، قرأ لها سِبْطها يوسُف بن شاهين.
كان زوجُها كثير التبجيل لها والتعظيم، كما كانت هي عظيمة الرعاية له، ولقد سأله أحد تلاميذه مرة: «كيف هي لك؟ وكيف لأولادها؟ وكيف هي بالعلم والتحديث والحفظ؟» فأجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هي نِعْمَ الزوجة لي ونِعْمَ الأم لبناتها، وما أراها إلا نِعْمَ الشيخة لتلاميذها»، وسأله تلميذه: «مِن أين لها هذا الفضل؟» قال الحافظ: « منذ أن تزوجتُها وبعد زواجي منها بسبع ليالٍ ما تركتْ ليلة بِلا قيام إلا من عُذر، وما أرى من بركة في بيتنا وبناتنا إلا بفضل هذه الركعات».
أنجبت أُنْس 5 بنات ولم تنجب ذكراً قَطّ، وماتت جميع بناتها بين يديها فصبرت واحتسبت. ولم تُضبَط لها هفوة ولا زلة، وكانت دَيِّنة كريمة راغبة في الخير مُجابة الدعاء، ويُقال إنها رأت ليلة القدر.
توفيت أُنْس في ربيع الأول سنة 867هـ، وصُلي عليها بجامع المارداني، ودُفنت بالقُرب من الجامع عند بناتها.
من بناته
ابنته زين خاتون: اعتنى بها أبوها واستجاز لها(أي طلب الإجازة العلمية)؛ فلقد أحضرها عند الزين العراقي والهيثمي والجلال ابن خطيب داريا، وأسمعها من الشرف بن الكويك واستجاز لها خَلْقاً؛ وولدت يوسف بن شاهين المعروف بـ (سبط ابن حجر) الذي كانت له عناية بكتب جَدِّه تصنيفاً ونسخاً، وكتب من أماليه(أي ما كان يُمْليه على تلاميذه). ولم تظهر لابنته زين خاتون رواية، ولم تشتهر بذلك لوفاتها شابّة وهي حامل سنة (ت 833 هـ) بالطاعون عن نحو ثلاثين سنة رحمها الله تعالى.
أما ابنته فرحة (ت 828 هـ) فلقد استجاز لها أبوها مع أمِّها واعتنى بها، وأسمعها من مشايخه.
وأما ابنتاه فاطمة وعالية (كِلْتاهما توفيتا 819 هـ بالطاعون) فلقد استجاز لهما أبوهما ابن حجر من جماعة.
وابنته رابعة (ت 832هـ) ولدت في رجب سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وأحضرها أبوها في سنة خمس عشرة بمكة مجلس علي الزين المراغي، وأسمعها على غيره، وأجاز لها جَمْع كثير من المصريين والشاميين، وتزوجها الشِّهاب بن مكنون ثم المُحب بن الأشقر.
أما أهم الإضاءات التي نستطيع أن نستمدَّها من هذه السيرة العَطِرة التي لا يعرفها كثير من الناس عن الإمام ابن حجر العسقلاني وعائلته فهي:
1- دور العالم أو الداعية في بيته وبين أهله؛ انطلاقاً من قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا قُوْا أنفسَكم وأهليكم ناراً) وحديث الرسول (ص): «إنّ الله سَائلٌ كلَ راعٍ عما استرعاه، حَفِظ أم ضَيَّع، حتى يُسأل الرجل عن أهل بيته» متفق عليه؛ فلقد سجّل لنا التاريخ تراجم العديد من النساء اللاتي طلبن العلم وقرأن على آبائهن أو إخوانهن أو أزواجهن فأعطى هؤلاء العلماء صورة تربوية مشرقة عن العناية بأولادهم ذكوراً وإناثاً؛ فلم تشغلهم ظروف الحياة العلمية والدعوية عن واجبهم نحو أسرهم حتى تَحَقَّق لأولادهم وبناتهم النبوغ.
2- معرفة فضل تربية البنات: لقد حثّ الرسول (ص) على الإحسان إلى البنات والترغيب بالصبر عليهن، وبيَّن فضل مَن رُزق ببنات وأحسن تربيتهن، ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها زوج النبي (ص) قائلة: جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني فلم أجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمَتْها بين ابنتَيْها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي (ص) فحدثتُه فقال: «مَن ابتُليَ من هذه البنات بشيء فأحسن إليهنّ كُنّ له سِتْراً من النار» متفق عليه.
3- اختيار الزوجة الصالحة: هناك نصوص شرعية لا حصر لها تنص على ضرورة اختيار الزوجة الصالحة الوَدود الوَلود ذات الدين القَوِيم والخُلُق الكريم والمَنْشأ الطيب.
4- عناية النساء بطلب العلم: إنّ عناية المرأة بعلمها ضرورة لازمة، يقول (ص): «طلب العلم فريضة على كل مسلم» أخرجه ابن عدي والبيهقي وصحّحه العراقي والسيوطي، والمرأة داخلة في ذلك، وأما «ومسلمة» فمعناها صحيح، وهي من إلحاق بعض المصنِّفين، قاله السخاوي. وعصرنا الحالي يفرض مزيداً من مشاركة المرأة في النشاط العلمي والدعوي وغيره، مع التزام الحدود والضوابط التي قرّرتها الشريعة.
ختاماً نقول: إنّ أعداء الإسلام يسعَوْن ويخطِّطون لإفساد نساء المسلمين بكل وسيلة وطريقة ممكنة تحت شعارات: الحضارة والتقدم والمساواة والحرية وحقوق المرأة، لأنهم يدركون تمام الإدراك أن فساد المرأة وتَحَلُّلها من ربقة الشرع إفساد للمجتمع كله. ولصَدّ هذه الهجمات عن مجتمعنا ودرئها عن نسائنا خاصة، علينا التمسك بديننا وهَدْي نبينا محمد (ص)، وإدراك خطر هذه الهجمة وحقيقتها ومغزاها، والحرص على تربية نساء وبنات المسلمين وأبنائهم التربية الإسلامية الصحيحة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة