بانية أقدم جامعة في التاريخ (نساء عبر التاريخ)
كتب بواسطة إعداد: منال المغربي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
1387 مشاهدة
يؤكِّد المؤرخ الإسلامي العلاّمة محمد المنتصر بالله الكتاني رحمه الله في كتابه: «فاس عاصمة الأدارسة*» أنّ جامعة القرويين تُعدّ أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين»، ويُضيف الدكتور حسين مؤنس في كتابه: «معالم تاريخ المغرب والأندلس» أنّ جامع القرويين يُعتبر أقدم جامعة في تاريخ الإسلام.
هذه الجامعة تخرّج منها العديد من الأعلام المسلمين والغربيين، كما كان لهذه المؤسسة دورها السياسي إلى جانب دورها التربوي والعلمي؛ فلقد أشار علماء التاريخ الإسلامي إلى أنّ اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة من بيعة وحرب وسِلْم كانت تخرج بتوقيعات علماء جامع القرويين.
وفي عهد ما يُسمّى الوصاية الفرنسية على المغرب سنة 1912م كان جامع القرويين مركزاً للمقاومة ومعملاً يصنع أبطالها ومجاهديها؛ حتى قال عنها أحد دهاقنة الاحتلال الفرنسي (دهاقنة جمع دُهقان، وهو رئيس القرية أو الإقليم)، الجنرال «لوي هوبير كونزالف ليوتي» بعدما لقي من شدة بأس أهله وروّاده: «لا استقرار لنا في المغرب إلا بالقضاء على هذا البيت المظلم».
ولا نستطيع أن نُغفل الدور الاقتصادي الذي لعبته هذه المؤسسة الدينية والتعليمية؛ فلقد ذكر المؤرخ عبد الهادي التازي في كتابه «جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس» حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلته مستقلاً مالياً عن خزينة الدولة لدرجة أن غدت ميزانيّته تنافس ميزانية الدولة.
هذا الصرح العظيم، الذي بقي لقرون طويلة منارة للسالكين، بَنَتْه امرأة! إنّها فاطمة الفهرية (أم البنين) التي شيّدته في عهد الأمير يحيى بن محمد بن إدريس الحسني في رمضان من سنة 245 هجرية (يونيو 859 م)، فمن هي (أم البنين) فاطمة الفهرية؟
حياتها
هي بنت رجل عربي هو الشيخ الفقيه أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّّه الفِهري القيرواني الذي كان من عداد المهاجرين القيروانيين الذين وفدوا إلى فاس منذ الأيام الأولى للإمام إدريس بن إدريس الذي حكم المغرب، «وكانت مُثْرية بموروث أفادته من ذويها»؛ فلما تزوجت مات زوجها الذي كان هو الآخر يُعَدّ من الأغنياء، فوَرِثت مالاً كثيراً، وكان لها أخت تُدعى مريم تُكَنّى بـ«أم القاسم»؛ فعزمت كل منهما على صرف ما ورثتاه في وجوه الخير حتى يكون ذُخراً لهما بعد موتهما.
آلية تنفيذ المشروع
اشترت فاطمة أم البنين قرب منزلها في عُدْوة الواردين القرويين (أي في ضفّتهم) أرضاً بيضاء كان يُصنع بها الجِص وشرعت في حفر أساس المسجد وبنائه مَهَلّ رمضان سنة 245، واستمر العمل به إلى سنة 263، ولشدة تحرّيها الحلال وحرصها على عدم وجود أي شبهة تشوب تشييد الجامع عقدت العزم أن لا تأخذ تراباً أو مواد بناء من غير الأرض التي اشترتها بحُرِّ مالها. ومع أول أيام البناء أصرّت أم البنين على بدء الصوم، ونذرت ألاّ تُفطر يوماً حتى ينتهي العمل فيه. وكانت رحمها الله تُشرف على سير العمل بنفسها. وعندما تمّ تشييده، كان أول عمل قامت به فاطمة الفهرية أن صلّت ركعَتَيْ شكر لله.
ولقد مشت أختها مريم (أم القاسم) على الدرب نفسه؛ ففي تلك السنة بنت مسجداً بعدوة أهل الأندلس، ويذكر أن هذا الجامع أصبح ملحقاً من ملحقات جامع القرويين بعد فترة.
وبعد عشرين سنة من بدء بناء هذه المَعْلَمة، توفيت فاطمة بنت محمد الفهري القيروانية المعروفة باسم (أم البنين) نحو عام 265هـ /1180م.
ماذا نستفيد؟
· إخلاص النية لله: إنّ بناء (أم البنين) فاطمة الفِهرية لهذا المسجد لم يكن ابتغاء التقرّب من أصحاب التجلة (الجاه والسلطان)، ولا رغبة في استمالة أتباع يرفعونها إلى مقام الصالحات والأولياء، بل كان هذا العمل خالصاً لله عز وجل، ويتجلّى ذلك في أبهى صوره عندما انتهى العمل من بنائه، حيث لم تجمع أم البنين الناس لكي يشهدوا هذا الحدث العظيم، ولم تُصرّ على كتابة اسمها على لوحة الشرف.. يذكر المؤرخ عبد الهادي التازي أنه قد عُثر عند أعمال ترميم المسجد على لوحة اكتُشفت مدفونة تحت الجبس، وقد نُقش عليها بخط كوفي إفريقي عتيق: «بُني هذا المسجد في شهر ذي القعدة من سنة ثلاثة وستين ومئتين مما أمر به الإمام أعزه الله داود بن إدريس أبقاه الله...»، ويُعلّق المؤرخ عبد الهادي التازي على هذا الأمر قائلاً: «نعلم أنّ التقاليد القديمة لا تلح في ذكر أسماء النساء على المباني سيما مع ما أُثر من أن الشعوب قد تقوم بالمشاريع وترجو إلى الملوك تبنّيها تقديراً لهم وتكريماً لمقامهم».
· تَحَرّي الحلال، بدءًً من المال الخالص الذي ليس فيه أيّة شبهة ولا تشوبه أية شائبة، مروراً بأعمال الحفر وتعمّدها اختيار التراب والحصى من أعماق الأرض مما جعل بناء هذا الصرح يستلزم كل هذا الوقت.
· الإيمان الصادق والصّلاح، فطوال فترة بناء المسجد - من رمضان سنة 245 إلى سنة 263 - التزمت أم البنين الصوم، وعند الانتهاء من بنائه صلّت فيه ركعتين شكراً لله على ما وفّقها إليه.
· مكانة المرأة المسلمة: الإسهام في مجال الوقف الإسلامي أكبر دليل على تنامي مكانة المرأة في المجتمعات الإسلامية؛ فلقد عانت المرأة من إهدار حقوقها في الأمم والشرائع السابقة للإسلام، فجاءت تعاليم الإسلام لتقرر للمرأة حقوقها كاملة؛ ومنها أن يكون لها ذمة مالية مستقلّة عن الرجل، يقول الله تبارك وتعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) (النساء: 32).
كما أنّ بناء المساجد والجوامع يُبيّن مدى إدراك المرأة المسلمة لأهميتها ورسالتها من ناحية التوعية بقضايا الأمة والمساهمة في معالجة مشاكلها وأمراضها، وكذلك تخصيصها بعض مشاريع الوقف في مجالات المعرفة يبيّن مدى وعيها بكون هذه المشاريع تُساهم بالتصدي للأمية والجهل والتخلف العلمي.
· فن المبادرة: إنّ هذه المبادرة العظيمة من هذه المرأة جعلت ابن خلدون يقول عنها في تاريخه: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها». فأين هي عزائم نساء المسلمين اليوم في مجالات الوقف الخيري؟ من ناحية: بناء المدارس والمساجد وحفر الآبار وإقامة المراكز والأندية الدعوية والثقافية والعلمية التي تهتم بالنشء والشباب وكل فئات المجتمع المسلم... وغيرها من أعمال الوقف حسب ما تقتضيه المصلحة والحاجة.
كل ما ذكرناه يؤكد على ضرورة تفعيل مبادرات النساء من أجل العودة بالوقف إلى دوره الفعّال في المجتمعات المسلمة، حينها سنجني بإذن الله ثماره الروحية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
* الأدارسة أسرة كبيرة من آل البيت جدها الأعلى هو إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول (ص). التجأ إدريس، إلى المغرب فراراً من العباسيين وأسس دولته.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة