فاطمة السَّمَرْقَنْدية حُجّة في الفقه والإفتاء
كتب بواسطة إعداد: منال المغربي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
3328 مشاهدة
في بلاد تركستان التي تمتد من نهر جَيْحون حتى حدود الصين وبلاد التبت تقع مدينة كبيرة يقال لها: كاسان، وفي بيت من بيوتها، وفي كنف شيخ جليل يُعتبر من كبار فقهاء عصره، هو محمد بن أحمد السمرقندي - يلقَّب بأبي منصور- صاحب كتابَيْ: (اللُّباب) و(تُحفة الفقهاء) الذي يُعد عمود الفقه الحنفي، وُلدت فتاة أسماها فاطمة.
قام الإمام السمرقندي بالعناية بابنته خير قيام، فأدّبها أحسن أدب، فكانت خير طالبة، يقول الإمام عبد الحي اللكنوي في كتابه «الفوائد البهية»: «كانت فاطمة فقيهة علاّمة تفقّهت على أبيها، وحفظت تحفته». كما أنها تعلّمت الخط حتى كان خطها معروفاً مميزاً، وأصبحت فاطمة بنت محمد السمرقندي أشهر فتاة في كاسان علماً وفهماً وذكاء، يعرض عليها والدها الفتاوى على الأسئلة التي كانت تأتيه من أنحاء البلاد، ويطلب منها التعليق عليها، فكانت تُعلّق بخطها الجميل، وتوقّع بعد توقيع أبيها على تلك الرُّقَع، فلا تخرج فتوى من عند السمرقندي إلا وعليها توقيعان: توقيعه، وتوقيع ابنته العالِمة فاطمة.
مطمع الخُطّاب
انتشر صيت فاطمة في تركستان كلها، حتى أنّ جماعة من ملوك بلاد الروم من المسلمين وأمراء ذلك الزمان سعَوْا إلى أبيها، يطلبون يد ابنته فاطمة والقرب منه، فلم يكن ليجيب أحداً إلى ذلك.
شرح تُحفتَه فزوّجه ابنتَه
كانت لأبيها السمرقندي حلقة يلتئم شملها كل يوم، تضم طلاباً للعلم تميّز منهم أبو بكر بن مسعود بن الكاساني، الذي لازم شيخه واشتغل بالعلم عليه، وبرع في الأصول والفقه. وتفرغ التلميذ لشرح كتاب شيخه: «تحفة الفقهاء»؛ فلما أتمّ الشرح وراجعه عرضه على شيخه السمرقندي، بعد أن أسمى كتابه: (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، وهو عمدة في الفقه الحنفي، ومن أحسن مراجعه ترتيباً للتدريس.
أعــجب السمرقــنـــدي بالــكتاب ومؤلفه إعجاباً شديداً، فزوّجه ابنته فاطمة، وجعل الكتاب مهرها، فقال فقهاء عصره: «شرح تحفته وزوّجه ابنته»، واستمرت رقاع الفتوى تخرج من بيت أبيها السمرقندي بتوقيعه، وتوقيع ابنته فاطمة، وانضم إلى توقيعهما توقيع ثالث جديد: هو توقيع زوجها الكاساني.
بعد الزواج
لم تكن من النوع الخامل، فلقد تصدّرت فاطمة بنت محمد السمرقندي للتدريس والإفادة، فطلبَ العلم على يديها الكثيرون.
ومن دلائل علوِّ قدرها ومنزلتها في العلم يحكي المؤرخ الحلبي المشهور «ابن العديم»: أن فاطمة كانت تنقل المذاهب نقلاً جيداً، وأن زوجها ربما يَهِمُ في الفُتيا فتردّه إلى الصواب، وتعرّفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وأنها كانت تُفتي زوجها فيحترمها ويُكْرِمها.
ففاطمة نظمت أوقاتها بين العبادة والمطالعة والحفظ والتدريس والتأليف حتى استطاعت أن تحصّل العلم الكثير الذي جعلها في مصافِّ كبار العلماء المتصدرين للفُتيا والتدريس.
الهجرة
تنقلت فاطمة مع زوجها في الأمصار مسافراً إلى بلاد الروم، ثم إلى بلاد الشام، واستقرا في حلب الشَّهباء مجاورَيْن للملك العادل نور الدين محمود ومشاركَيْن في خدمة المسلمين في دولة الأيوبيين.
إكرامها للعلماء
قال العلاّمة الحافظ عبد القادر القُرَشي في كتابه الجواهر المضيئة: قال داود بن علي وهو أحد فقهاء الحلاوية: هي التي سَنّت الفِطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية - وهي مدرسة من المدارس الشرعية الكثيرة في حلب وكان لفاطمة بنت السمرقندي بها صلة، وكان في يديها سواران أخرجتهما وباعتهما وعملت بالثمن الفطور كل ليلة، واستمرت هذه العادة إلى اليوم.
مؤلفاتها
ذكر محمد رضا كحالة صاحب كتاب «أعلام النساء»، وزينب فواز صاحبة كتاب: «الدُّر المنثور في طبقات ربات الخدور» أن فاطمة ألّفت المؤلَّفات العديدة في الفقه مثل «مجمع الفوائد لِجَمّ العوائد شرح تحفة الملوك» في الحديث، وانتشرت مؤلفاتها بين العلماء الأفاضل.
إكرام الملوك لها
كان نور الدين محمد بن محمود زنكي - سلطان حلب وغيرها - يعرف قَدْر فاطمة ومكانتها فكان يستفتيها في بعض المسائل، ويستشيرها في بعض أمور دولته الداخلية؛ ويُنعم عليها ببعض العطايا لمعرفته بعلمها ورجاحة عقلها وجُودة رأيها، وحين علم بعزمها على عودتها إلى بلدها استأذن زوجها ببقائها؛ يذكر ابن العديم أنها كانت في أول قدومهما إلى حلب تحثّ الكاساني على مغادرتها والعودة إلى بلادها، فلما علم الملك العادل نور الدين برغبة الشيخ في المغادرة استدعاه وسأله عن جلية الأمر وأبدى له رغبته ورغبة العلماء أن يقيم بحلب، فعرّفه السبب وأنه لا يحب أن يُخالف زوجته ابنة شيخه، فأرسل الملك رسالة إليها مع امرأة يرجوها البقاء بحلب فأجابته إلى ذلك، وأقامت في حلب إلى أن ماتت رحمها الله.
وفاتها
توفيت فاطمة قبل عام 581هـ، ودُفنت في مسجد إبراهيم الخليل بظاهر حلب.
وفاء زوجها
لم يقطع الكاساني زيارة قبرها كل ليلة جمعة إلى أن مات، ومن عجيب المقادير أن زوجها لم يعش طويلاً، بل مات بعدها بقليل سنة 587هـ، وأوصى أن يُدفن بجوار قبر زوجته داخل مقام إبراهيم الخليل عليه السلام، بظاهر حلب. يقول ابن العديم: «وزرت قبرَيْهما في هذه القُبة المذكورة غير مَرّة رحمهما الله تعالى».
سيرة حياة العالمة الفقيهة فاطمة السمرقندية تعتبر خير حافز مشجع على عودة البيت المسلم إلى دوره المؤثر في التربية وتنشئة البنات على فضائل الأخلاق، وحب العلم، والسعي في طلبه، والنبوغ فيه مع الانضباط بضوابط الشرع وأخلاقياته.
رحم الله السمرقندي الكاساني وابنته فاطمة وصهره، وأباها ورحم علماء المسلمين الأخيار.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن