من يتذكّر الشيخ علي الطنطاوي (في رمضان)؟!
بالأَبيض والأَسود، وبعد ذلك قليلاً، كان الشيخ علي الطنطاوي يطلُّ علينا، مشاهدي التلفزيون الأُردني، في بعضِ سنوات السبعينيات، ساعةَ الإفطار في رمضان، يتحدَّثُ بلغةٍ لا أَلذ ولا أَجمل عن الإسلام ديناً ودنيا، ويطوفُ بشاميِّتِه العذبةِ بين ذكرياتٍ وقصصٍ تتصل بخبرتِه في الفتيا والتعليم الشرعي، ويجيبُ عن أَسئلةٍ ويخوضُ في قضايا وأَحكامٍ ومسائل عدة، ويصلُها بالجوهريِّ في الإسلام وبسجايا المسلمين وشمائِلهم، ويذهبُ إِلى السيرةِ النبوية وسير الصالحين والأَتقياء، ويروحُ ويغدو إِلى الراهن والماضي، وإلى تاريخ المسلمين في غير حقبة. حضورُه على الشاشةِ يفيضُ سماحةً وحبّاً ووداعةً، فقد كان، رحمه الله، يتقنُ النكتةَ الظريفةَ الموحية، ويحرصُ على انشراحِ مشاهديه ومستمعيه، فما أَن يودِّعنا في نهايةِ الحلقة حتى نشتاقَ إِليه في ساعةِ الإفطار التي تصير شهيةً أَكثر معه في اليوم التالي.
تُراه الحنينُ الدائمُ فيَّ إِلى القديم يجعلني أَستعيدُ سنواتٍ بعيدةً في طفولتي وبعض يفاعتي، وكان شيخي الشاميُّ الجليلُ، في أَثنائها، واحداً من نجوم التلفزيون الذي كان مصدر بهجةٍ لا توصف لمخيّلاتنا. لا أَتذكر المرة الأولى التي انسرقَت فيها حواسّي، ذات رمضان، إِلى القعود قدّام الشيخ الطنطاوي، للإنصات إِلى طلاوةِ حديثِه وروعتِه، وهو يسترسلُ فيه ويحرِّك يديه، فأَتملى في صلعتِه ولحيتِه وبياضهما الرائق، قبل أَن يضعَ في سنواتٍ تاليةٍ على رأسه حطة المشايخ البيضاء. غابَ عنا لمّا صرنا شباناً في الثمانينيات وبعدَها، لم أُصادفه على فضائيةٍ في زمنٍ تناسلت فيه الفضائيات، وتنوَّع على شاشاتها الوعاظ والدعاةُ والشّرّاح، غير أَنَّ شوقاً ثاوياً ظلَّ فيَّ إلى الطنطاوي إذا ما استمعتُ إِلى أَحدهم، على ما لدى كثيرين منهم من معرفةٍ وعلم. وذات مساءٍ رمضانيٍّ في الدوحة قبل سبعة عشر عاماً ربما، وجدْتُه في الفضائية القطرية، في درسٍ جميلٍ قبيل الإفطار، بالعذوبةِ والروح السمحةِ نفسيهما، وبالابتسامةِ الصافيةِ والبشاشةِ الحلوةِ إِياهما. لاحقتُه في رمضان ذلك العام، ثم لم أُلقاهُ على شاشةٍ أُخرى في أَيِّ رمضانٍ لاحق، ربما تقصيراً مني في البحثِ عنه، أَو، على الأرجح، لتقدُّم الشيخ في السن وإِيثاره العزلة، حتى باغتني في يومٍ حزيرانيٍّ في 1999 خبرُ وفاته في السعودية، حيث كان يقيمُ منذ سنوات طويلة، بعد مغادرتِه الشام، لمّا لم يُطق أَوضاعاً معلومةً فيها.
تقرأُ في سيرة الشيخ علي الطنطاوي، فيُدهشك ثراءُ التجارب فيها. عمل في الصحافة التي واظبَ في الكتابةِ فيها طويلا، وأَدار مجلاتٍ وصحفًا، واشتغل في التعليم وفي التدريس الدينيِّ والشرعي، وفي سلك القضاءِ الذي وصل فيه إلى مراتب عليا، وعمل مذيعاً أَيضاً، وذلك كله وغيرُه في سوريا والعراق ولبنان ومصر. جال في العالم الإسلامي، وأَفتى واجتهد وأَصَّل وتوزَّع تلاميذُه في غيرِ بلد، وكتبَ مؤلفاتٍ متنوعةَ المشاغل في الإفتاء والذكريات والتاريخ واللغة والأدب والرحلةِ والخاطرة، وفيها قطوفٌ وروائعُ من الحكم والعبر والدروس. وفي شبابِه الأول، نشط مناضلاً ضد الفرنسيين المستعمرين في بلدِه، وشاع، بعد عقود، أَن ابنةً له، زوجة عصام العطار، اغتالتها المخابرات السورية في أَلمانيا.
لا يليقُ نسيانُ الشيخ علي الطنطاوي، وتجاهلُ مأثراته العديدة في غير شأن، ويكون طيباً من التلفزيون الأُردني، لو يتحفنا من أَرشيفه بإطلالات له، لنتذوق في رمضان وغير رمضان حلاوةً شهيةً في أَحاديث أَخّاذة عن شؤون ديننا ودنيانا، فيها منفعةٌ ومتعةٌ عظيمتان. ... عليه رحمة الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن