الطفولة وهَمُّ التربية
كثر الحديث عن الطفولة والأطفال.. وكثر ادّعاء الدفاع عن الطفولة وحبّ الأطفال.. وربّما كان كثير من المتحدّثين يركبون موجة تتلاشى مع الزمن، وتبقى الطفولة ضحيّة عرجاء، تنتظر اليد الحانية الصادقة التي تسندها، والفكرة الصائبة التي تسعفها، وربّما كان الحديث عن الطفولة استرضاء لتأنيب الضمير، وتسكيناً لعذاباته.. وربّما كان تستّراً على مآرب مشبوهة بل مغرضة، تتاجر بأجساد الأطفال، وتغتال دينهم، وتعبث بعقولهم..
وتبقى الطفولة المعذّبة بأهواء الكبار ومشكلاتهم، لا تجد الواقفين معها إلاّ بالكلام، ولا المدافعين عنها إلاّ بالمتاجرة والمزايدة، وعقد المؤتمرات، وتصدير القرارات..
وإنّ أهمّ أوجه أزمة الأمّة، وما يعوّق نهضتها: أزمة التربية بمفهومها الشامل المتكامل، وهي تكاد أن تكون أزمةَ الأمّة الكبرى، فلو أعدْتَ كلّ أزمة إليها لما كُنتَ مغالياً ولا مبالغاً..
وأحسب أنّ مَن يُعرض عن الاهتمام بأزمة التربية، والبدء بالطفولة، ويشتغل بغيرها من الشؤون والأزمات كمن يشتغل عن معالجة المرض بالعَرَض، فسيجد نفسه بعد حين أنّه لم يفلح في إزالة العرض، وفاته القضاء على المرض..
والتربية التي نريد تلك التربية الشاملة المتوازنة، التي تعطي كلّ ذي حقّ حقّه.. فهي تشمل عقل الإنسان وجسده وروحه، وتوازناً بين حقوقه وواجباته، وتجمع بين علاقاته الخاصّة والعامّة، وتبدأ من الطفولة، وتعدّها محورها، وتقتنص الحكمة حيث كانت دون تفريط بالثوابت أو خروج عنها..
والتربية ميدان واسع، وآفاق رحبة، من الاجتهادات والأساليب، والمواقف والرؤى، وهي قابلة للتجديد والتطوير، والتفنّن والإبداع.. وبخاصّة في هذا العصر، الذي اكتظّ بأمشاج من العلوم والمعارف، التي تتنازع الحقيقة وتتجاذبها، وينعكس تأثيرها على فكر الإنسان وسلوكه، وواقعه وعلاقاته..
وتربية الأطفال تبدأ شعوراً بالهمّ مقلقاً، ثمّ تخطيطاً حكيماً، ثمّ عملاً جادّاً مثمراً..
فماذا نعني بالهمّ التربويّ؟
إنّنا عندما نهتمّ بأيّ أمر تتوجّه طاقاتنا الفكريّة والنفسيّة والجسديّة كلّها إليه، وما يتطلّبه منّا من استعدادات وجهود..
فإذا كان الأمر يتطلّب جهداً فكريّاً أعملنا فِكْرنا، واتّخذنا من وسائل ذلك ما يحقّق لنا ما نرغب..
وإذا كان الأمر يتطلّب جهداً جسديّاً عضليّاً، تحفّزت له عضلاتنا، وأخذت الوضع المناسب للتغلّب عليه وتحقيقه..
وإذا كان الأمر يتطلّب طاقة نفسيّة، شُحنت له عواطفنا بصورة ملائمة، وتوجّهت إليه، وغلبت في ذلك الموقف قوى النفس الأخرى..
فإذا وجدنا أنفسنا لا نملك الأسباب الملائمة لما نواجه من مشكلة، فإنّ الأمر الفطريّ في حياتنا ألاّ نستسلم ونلقي أسلحتنا، إلاّ أن يخرج الأمر عن إرادتنا.
فمن أسرار النجاح في التربية لأبنائنا إذن أن نحمل في قلوبنا همّاً لتربيتهم، ومعالجة مشكلاتهم، وتحقيق أرفع ما نصبو إليه في تكوينهم وبنائهم.. مما يدفعنا إلى أن نبدع من الوسائل والأساليب ما يحقّق لنا ذلك على أحسن صورة، وأن نطوّر علاقتنا بهم بما يتلاءم مع نموّهم الجسميّ والعقليّ ونضجهم النفسيّ، والمراحل التي يتدرّجون فيها..
وقد جاء في المثل: «الحاجةُ تفتقُ الحيلةَ»، وأضيفُ هنا ممّا يتّصل بالتربية: «وصدق الرغبة يصنع الأعاجيب»، والحاجة لا تعدّ كذلك ما لم تكن همّاً، يشغل على الإنسان فكرَه، ويجعله يقلّب الرأي على وجوهه، ويبحث وينقّب، ويسأل ويتعلّم، ويشاور أهل الاختصاص ويحاور، ويدرس ما أمامه من احتمالات، ويتّخذ من الأساليب والوسائل أحسن ما يحقّق له أهدافه.
والصورة المقابلة للهمّ التربويّ: حالة الإهمال والتسيّب من الآباء والأمّهات، والغفلة وعدم المبالاة، واعتبار التربية أمراً نافلاً متروكاً لتقلّبات الزمن، والتواكليّة على الآخرين في التربية، وإلقاء المسؤوليّة عليهم، والتنصّل من التَّبعات، أو التسويف والإهمال في الصِّغَر، ثمّ إعلان العجز عند الكِبَر، وغلبة العواطف المتسيّبة على العقل والجد.ّ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن