لِنغرس حُبَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في القلوب الصغيرة
صغيري الحبيب:دعني أنظر إلى عينيك الحبيبتَيْن، وأستشعر عظَمة خالقك وبارئك كلما أرسلتا لي شعاعاً باحثاً عن معرفةٍ وعلم.
ثم دعني أطرح بين يديك أسئلة لتحدِّد بها أنت صورتك المستقبلية إن شاء الله، وأطمئن أنا على غِراسي التربوي، فأنام نومتي الأخيرة وأنا قريرة العين.
ولدي... أرأيتَ أحد العظماء الأقوياء ودرست سيرته؟ ربما تقول لي سوبرمان أو جراندايزر أو ممن تعرفهم أكثر مني، لكني أقول لك: هناك إنسان عظيم طاهر كريم مشى على الأرض وهَدى أهلها لطريق الخير والنور والعطاء.
علّم أمته أعظم كتاب يُقرأ ويُحفظ ويُدرَّس فأخرج أمة عظيمة لم ولن تعرف البشرية مثلها إلا يوم عودتها الواعية لتعاليم دينها.
أيْ بُني... طالع سيرته وسوف تحبّه... سوف تحبه طفلاً رضيعاً رضي بجزءٍ من حليبِ مُرضعته تاركاً الجزء الآخر ليستمتع أخوه في الرَّضاع، ولأنك يا صغيري تحب العطاء فسوف تحبّه... وسوف تحبّه يتيماً عندما تماسكَ لحظة فِراق أمه بالأبواء، ولأنك يا صغيري تحب الثبات وتكره الجزع فسوف تحبه وتوقِّره... فإن كنتَ يا صغيري تحب القوّة فقد كان قوياً وستجد ذلك في سيرته، وإن كنتَ تحب العلم اليقيني فقد كان منبع العلم ومصدره بعد الوحي، وإني أراك يا صغيري خَلوقاً فصلِّ معي على إمامنا وقدوتنا صاحب الخلُق العظيم والسلوك القويم سيدنا محمد وعلى آله وصَحبه أجمعين.
لقد كان نبيُّنا العظيم يحبّ الصغار؛ فتراه يمسح على رأس هذا، ويدعو لذاك، ويطمئن على المريض، ويا لروعةِ إحساسه بالفتى اليهوديّ المريض؛ فقد دعا له لأن يكون من أهل الجنة؛ فأملي بك يا صغيري أن تغدو قوياً مُثْمراً مِعطاءً تملأ الأرض فرحاً وحبوراً وفخراً وعزّاً لأنك مؤمنٌ تسير على هدى الحبيب...
ثم دعني أروي لك سطوراً من سيرة أحد الشيوخ المعاصرين ألا وهو العلاّمة أبو الحسن النَّدْوي؛ فهو عالِم مفكِّر معاصر لم يأتِك من الماضي البعيد، بل ربما عاش أيام أبيك أو أن جدك يعرفه؛ فقد دوَّن في مذكراته: «لقد كان أخي الأكبر رحمه الله - وهو الذي تولى تربيتي وتثقيفي بعد وفاة أبي وقد توفي وأنا في التاسعة من عمري - موفَّقاً كل التوفيق في اختيار الكتب التي كان يحب أن أطالعها في صِغَري؛ فقد قدَّم إليّ في أول ما قدم كتاب «سيرة خير البشر» لمؤلف هندي، وكان حريصاً على أن أُكثر من مطالعة كتب السيرة النبوية - على صاحبها الصلاة والسلام - لأنه يعرف أنها المؤثِّر الأكبر في تكوين السيرة والعقيدة والخُلق وغرس الإيمان، وقد نشأتُ لذلك على حُبِّ كتب السيرة والحرص على اقتنائها ومطالعتها، فوقع بصري مرة على كتاب «رحمة العالمين»، وكنت كثير النظر في الفهارس وإعلانات الكتب، وأرسلتُ طلباً لهذا الكتاب، وكان قد طُبع منه جزءان تقصر ميزانيتي الصغيرة - وأنا في العاشرة أو الحاديةَ عَشْرَةَ من عمري- عن شرائه، ولكن الصِّغار خصوصاً في العصر الذي أتحدثُ عنه لا يخضعون لقوانين الميزانيات وعلم الاقتصاد، إنما ينساقون مع الغرائز والعواطف، وجاء ساعي البريد وهو يحمل هذا الكتاب فيما يحمله من بريد قريتنا الصغيرة، ولا أملك ما أتَسلَّم به هذا الكتاب وأدفع ثمنه، واعتذرت أمي رحمها الله - مع حرصها على إرضائها طفلَها اليتيم - عن دفع النقود لأنها لم تكن تملكها في ذلك الحين، ورأيت فلم أر لي مساعِداً وشفيعاً في هذه المهمة إلا الشفيع الذي لجأ إليه سيدنا عمير بن أبي وقاص الصغير فقَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعته وأجازه للقتال في بدر، ذلك شفيع الدموع والبكاء البريء الذي لم يزل وجيهاً مسموعاً عند الله وعند عباده الصالحين، وكذلك كان؛ فقد رقَّ لذلك قلب أمي الحنون واجتهدت في دفع ثمن الكتاب والحصول عليه... وأخذتُ الكتاب.
بدأتُ أقرأ الكتاب، وبدأ الكتاب يهزّ قلبي، وليست بهِزّة عنيفة مزعجة، إنما هي هِزّة رقيقة، وقلبي يهتز له ويطرَب، وهذا هو الفارق بين الكتب التي أُلّفت في حياة الأبطال والفاتحين الكبار وبين الكتب التي أُلّفت في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالأولى تُغير على القلب وتُزعجه، وللثانية هِزّة تنبعث من النفس وتُريحها.
وبدأتْ تتجاوب نفسي لهذا الكتاب وتُسيغه كأنما كانت منه على ميعاد، وشعرتُ في أثناء قراءتي لهذا الكتاب بلَذّة غريبة، إنها لَذّة تختلف عن جميع اللّذات التي عرفتُها في صِغَري. ولم أزل مرهَف الحِس قويّ الشعور؛ فلا هي لذة الطعام الشهيّ في يوم الجوع، ولا هي لذة العطلة والفراغ بعد الدراسة المُضنية والاشتغال المرهِق، ولا هي لذة اللباس الجديد في يوم العيد، ولا هي لذّة اللُّعَب في حين الشوق إليها، ولا هي لذة الانتصار والظَّفَر في المباراة، ولا هي لذة زيارة صديق قديم أو زائر كريم، إنها لا تشبه لذّة من هذه اللذات، إنها لذّة أعرف طعمها ولا أستطيع وصفها، وأعترف أني لا أستطيع حتى اليوم أن أَصِفها بدقة، ولا أعبِّر عنها بكلمة، إنّ غاية ما أستطيع أن أقول: إنها لذة الروح... وهل الأطفال لا يحملون الأرواح ولا يشعرون باللذة الروحية؟! بلى والله، إن الأطفال أَشَفُّ روحاً وأَصَحُّ شعوراً وإن عجزوا عن التعبير.
كنتُ أقرأ في هذا الكتاب المُعجِب المُطرِب خبرَ مَن كان يُسلَم من قريش فتنهال عليه أنواع العذاب، فكان يتحمّل كل ذلك في ثباتٍ وصبرٍ بل ولَذّةٍ وسرور؛ فكنتُ أشعر بأن هناك لذة لا يعرفها كثير من الأغنياء والأقوياء وكثير ممن يُعَدّون في الحياة سعداء، وهو أن تُضرَب على الحق وتُضطهد في عقيدة وتُهان في سبيل الدعوة، وأنَّ هذه اللَّذة لا تعدلها لَذة القوة والظَّفَر، ورأيتُ أن نفسي تتمنى أن تسعَد بهذه اللذة وبهذه الكرامة ولو مرة في العمر.
وقرأتُ قصة لم يعرف التاريخ أعظم منها وأغرب منها وأجمل منها في الوفاء والإخلاص والبطولة والإيمان واليقين والخلُق الكريم، وقد هزّني قول أنس بن النضر رضي الله عنه للذين جلسوا وألقَوْا ما بأيديهم وقالوا: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول القائل: إني لأجد ريحَ الجنة من دون أُحُد، والذي كانت أمنيَّتَه الأخيرة أن يصلّي بين قدمَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في آخر عهده بالدنيا فحملوه إليه، فهو يجود بنفسه ولفظَ نفَسَه الأخير بين قدمَيْ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف ترّس أبو دجانة رضي الله عنه بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع النبل في ظهره وهو مُنحَنٍ عليه.
إلى غير ذلك من أحاديث الحب والتفاني... وأتابع قراءتي لهذا الكتاب وقد يغلبني البكاء فأبكي، وقد يملكني السرور والطرب فأَطرب.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن