حروف فقدت لمعانها
كتب بواسطة هشام محمد سعيد قربان
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
2171 مشاهدة
خليلٌ وصديق، وأخٌ وقريب، وجارٌ ورفيق وزميل دراسة، ومجالِسٌ ومناقش، وزائرٌ وعضو في مجلسنا... هذه كلمات، نعم كلمات، ومثلها في حياتنا كثيرٌ كثير، ننطقُها كلَّ يوم، نملأ أفواهَنا بها ونتشدق، تَلوكُها ألسنتُنا بلا عناءٍ أو كلفة، حتى اعتدناها وأَلِفْناها كثيرًا، وفقدنا إحساسنا بجوهرِها وطعمها؛ فأضحَتْ في قواميسِ طباعنا الغليظة حروفًا جامدة هامدةً باهتةً.
حروفٌ جوفاء هرب معناها من أَسْرِ الطبع المتبلِّد منذ زمن طويل، حروفٌ نحن من وَأَدَ ألَقها ولَمَعانها وروحها.
تقول: إنك لا تُصدِّق زعمي وكلامي؛ هذا حقُّك، تتهمُني بالمبالغة، وتَدَّعي أنها أكبرُ من كونها كلمات؛ وأنها أشجار في حديقتك باسقة سامقة وعميقة الجذورِ -.
لعلَّك صادق بعضَ الشيء، وقد يَصحُّ وصفك لتلك الكلمات بأنها أشجارٌ في حديقتِك، لن أخالفَك، لعلَّها كانت يومًا ما أشجارًا، أو لعلَّك رَغِبتَ أو أمَّلتَ وحلمت حين بَذرْتَها وغَرست فسائِلَها في القديم بأن تكون أشجارًا وارفةَ الظِّلال، تغنِّي على أغصانها البلابل!
ولكنَّك نسيت، نعم نسيتَ، ونسيتَ، ونسيتَ!
نسيتَ أن البذورَ والفسائلَ والأشجار مهما عَظُمت تحتاج لسَقْيٍ وعناية، وتفقُّد وإصلاح وحماية من الآفات والنوازل.
نسيت، بل أراك حذفْتَ كلَّ مفردات المحبَّة والوُدِّ واللُّطْف لمن تحبُّ من قاموسِك؛ فجفَّتْ كلماتك، وغلظت روحك!
لقد نسيتَ - بل تناسَيْتَ - على علمٍ أثرَ الهديَّة في نفس المُهدَى إليه؛ فلم تَعُدْ تُهدي مَن تحبُّ ومَن يحبُّك هديَّة حتى لو كانت صغيرةً، بل إنك أصبحتَ لا تهدي إلا الغرباءَ والوجهاء و...
نسيت أن تدعو إلى مجلسك العامرِ وحفلِك السامر مَن يَودُّك ويتقرَّب إليك؛ وحرصتَ على غيره من أصحاب الأوزان الثقيلة.
نسيتَ بل أغفَلْتَ وأسقطْتَ أسماء كثيرة لقومٍ يحبُّونك من قوائمِ لقاءاتك وحفلاتك، ومجلسِك ومحاضراتك!
والعَجبُ أنك مع نسيانك لهم تسألُ في براءة مصطنعة متكلَّفة: أين غاب هؤلاء؟ ولِمَ غابوا؟ بل ولعلَّك تلومُهم!
أنسيتَ أن للقوم - مع أنهم يُحبُّونك - مشاعرَ وأحاسيس وكرامة وعزةَ نفس وأنَفَة؟
كيف يحضُرون لحفلِك وأنت لم تدعوهم، ولم تُجِبِ اتِّصالاتهم، ولم تَفهَمْ تودُّدَهم لك، وتُفضِّل عليهم مَن تعرف؟
نسيتَ السؤال عمَّن تحب ومَن يحبُّك؛ فمَرِض بعضهم، وهاجر آخرون، بل ومات كثيرٌ منهم، وأنت لا تدري؛ وعذرُك الأشغالُ، والأعمال، والأثقال، والأغلال والأوهام، والتسويف.....
نسيت أمورًا وحقوقًا لا تُكلِّفُك كثيرَ عناء، نسيت الدعاء بظَهْر الغيبِ لمن تربطُك به وشائجُ المحبَّة والوُدِّ، تفعلُ كلَّ هذا وزيادة ثم تستغرب وتسأل: لِمَ نفر مني فلانٌ وفلان؟
عجيبٌ حالُك!
أترى أن من حقِّك على مَن أهمَلْتَ وأغفَلْتَ، وصدَدْتَ وأبعدت - أن يديمَ صلته بك، وأن يدمن القَرْعَ على بابك الأصمِّ، وأن يزورَك في مجلسِك وعرسِ أبنائك طُفَيْليًّا بلا دعوة؟!
هذه تذكرةٌ لطيفة لكلِّ مَن يعرف معنى المحبَّة ويُثمِّنُها، ويحرص على أهلها.
لعل قائلًا يعترض مستشهدًا بشاعرنا العربيِّ المجروح:
فما كلُّ مَن تهواه يهواكَ قلبُه ♦♦♦ وما كلُّ مَن صافيتَه لك قد صفا
ولعلَّ آخرَ يستشهد بحكمة غربية: لن تسعدَ وترضى حتى تعلمَ يقينًا أنك لم تُخلَقْ ليُحبَّك الناس كلُّهم.
هذه أقوال أصابت كبدَ الحقيقة المُرَّة، ولكن حديثي هنا يذكِّرُنا بمَن حولنا، ومن يحاول التقرُّب والتودُّد لنا، ويُذكِّرنا بأن المحبَّة هي أجملُ أساسٍ للصُّحْبة والرفقة، وأن للمحبَّة حقوقًا وآدابًا وواجبات؛ وأن أصدقَ المحبَّة ما كانت لله وفي الله؛ فما كلُّ مَن نظنُّ أُخوَّتَه وخلَّته في دنيانا تستمرُّ خلَّتُه إلى يومِ تُكشَف فيه السرائر.
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن