داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
حديث 'فيلم الجرة'
مقالنا هذا له نكهة خاصة، بين إشراقة التاريخ والحديث النبوي وجهود ثُلَّةٍ مِن الشباب والشابات والأغنياء في بلاد الشام.
مُنْطَلَقُنا مع القصة التي نَقَلها سيدُنا أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي [ قال: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ. فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي؛ إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ! وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا. فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَتَصَدَّقَا» متفق عليه.
لا شك في أنّ هذا الحديث أثار فيك الدَّهشة والفائدة، لكن بإمكانك أن تَستزيدَ دهشةً وفائدةً إذا كَرَّرت تأمُّلَه، واطلعتَ على شرْح العلماء له، وأكملت قراءة هذا المقال لتنظر كيف تَعامَل غيرُك معه؛ كُلٌّ مِن زاويته.
هذه القصة النبوية هي مِحور فيلم الكرتون "الجَرَّة حِكاية مِن الشرق" الذي فاز بالجائزة الأولى في مهرجان "بيربانك" Burbank الدَّولي لأفلام الأطفال في كاليفورنيا بأمريكا.
لَفَت هذا الحديث نَظرَ الشاب د. تحسين مزيك فترة إقامته في أمريكا لدراسة الكومبيوتر، وقد لاحظ أن ما يُقدَّم لأطفال المسلمين إنتاج غربي؛ بعيد عن ثقافتنا ومعتقداتنا، فضلًا عن الأفلام التي تَحمل تشويهًا لصورتنا؛ حتى وإن استُمِدَّت حكاياتُها مِن تراثنا العربي! وبالمقابل فإنَّ قِلَّة الإنتاجات الكرتونية العربية لا يمكنها أن تتصدَّى لذلك الغزو.
مِن هنا بدأتِ الفكرةُ _ يقول مزيك _ "تستحوذ على تفكيري، خاصَّةً كوني أستطيع أن أستفيد من دراستي في الكومبيوتر لخدمة بلدي وجميع الأطفال العرب". ويؤكد مزيك أنه "بسرعة تبيّن لي أن دخول هذه التجربة أشبه بالمغامرة؛ أوَّلًا لِمَا تتطلبه من أموال كبيرة، وثانيًا لعدم توافر أَيَّةِ خبرات في هذا المجال، لذلك بدأتُ مِن الصفر في كل شيء". فأسس شركة "النَّجم" للإنتاج الفني بدمشق بعد إقناع بعض المموِّلين (بلغت كلفته نحو مليون دولار).
"وبدأتُ بعدها بالبحث عن الطاقات البشرية؛ إلى أن توصَّلتُ إلى مجموعة ممتازة شاركتني الحماس، وَعَمِل الشخص الواحد في عدة مجالات إلى أن ظهر إبداعه في أحدها فتخصص به".
أما المخرج عمار الشربجي فيؤكد أن الفيلم أُخرج بجهود الفريق كله (من الشباب والشابات المتخرجين حديثًا) على جميع المراحل؛ بدءًا مِن النص الذي اشتغل عليه طَوال ستة أشهر وعُرض على اختصاصيين تربويين وفنيين ومجموعة أطفال، إلى غير ذلك كرسم الشخصيات؛ فتولَّى الرسام جوبان الشخصيات الْمُحَبَّبة في الفيلم: (أمين، حسن، ربيع، السنجاب، الديك...)، فيما تولَّى الرسام كراوي الشخصيات الشريرة. كما استفاد الفنان أبو الطواقي لتصميم الخلفيات من بساتين غوطة دمشق وجبال الساحل السوري.
هذا الفيلم يَغْرِس قيمة إسلامية أصيلة؛ هي: الأمانة والحفاظ على ممتلكات الآخرين، مِن خلال سرده للحكاية التي تجري أحداثُها مع أسرة بسيطة تشتري دارًا مِن تاجر، وأثناء التجديد تَعْثُر على جَرَّة مَليئة بالذهب، فتُصِرُّ على إعادتها لصاحب الدار السابق، فيَعلم جارُهم الشِّرِّير "عِنَاد" بالأمر ويحاول سرقة الجرة. وتتوالى الأحداث، ويتخلل ذلك بعض المواقف الكوميدية والأناشيد الهادفة، بأساليب سِحرية جَذّابة سهلة، لِنَصلَ في النهاية إلى معاقبة السارق "عِناد" بالسجن، ومكافأة كل الصادقين، وتزويج البنت للشاب كما في قصة الحديث، وتخصيص جزء مِن الذهب صدقةً للمصالح العامة.
عَوْدًا على بَدْء: فإن حديث قصة الجَرَّة قصير في بِضعة أسطر، لكنَّ معانيَه عميقةٌ ولطيفة وغزيرة؛ أختار منها:
• التربية النبوية بالقِصّة: فالقيم تصير في القصة أَنفَذَ إلى النفوس وأَشدّ تأثيرًا.
• بَثّ الإيجابية: فالرسول [ كثيرًا ما كان يستثمر الأخبار البنّاءة ليعَمِّمها.
• التَّحْبيب بالقِيَم الفاضلة: كالأمانة، والعِفَّة، والإيثار، والوَرع، والسماحة، والكَرم...
• فَصْل الخصومات بالشريعة: فعندما لم يَصِلا إلى اتفاق لم يستبِدَّ كُلٌّ منهما برأيه، بل احتكما إلى مَن هو أَعلم منهما (يُقال: إنه سيدنا داود عليه السلام)، فالأصل الاحتكام للقضاء الشرعي، فإن لم يوجد فإلى عالِم خبير.
• المُصالحة اللَّيِّنة أَولى: فالرجل الذي حكم بينهما لم يَقْضِ لصاحب الحقِّ، بل طيَّب خاطرهما، لذا عَنْوَن الإمام النووي للحديث في "شرح صحيح مسلم" بـ: (باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين).
• تطوير العلاقات الطيبة: فلما ظَهَر للحاكم وَرَعُهما وحُسن حالهما اقترح توثيق الصلة بالمصاهرة والتزاوج بين العائلتين رجاء طِيْب نسلهما، وإعفافًا للزوجين، وحَلًّا للمعضلة.
• رُقِيُّ هذا المَثَل: نَقل الحافظُ ابنُ حجر في "فتح الباري" رواية عن أبي هريرة: (لقد رأيتُنا يَكْثُر تَمَارِينا ومنازعتُنا عند النبي [ أَيُّهما أكثرُ أمانةً)، وكيف خَلَّد ذاك الحاكم الحكيم هذه القصة بنهايتها السعيدة!
• إنْ لم تَكونوا مِثلَهُم فتَشبَّهوا: كأني بهذا الْمَثَل الراقي في الإيثار يَصْرخ بنا: إنْ لم تؤْثِروا غيرَكم في حقوقِكم، فلا أَقَلَّ مِن أن تُنصِفوهم فلا تأكلوا حقوقَهم.
• (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ): على المسلم أن يَشكر الله على النِّعم بالرِّضا القَلبي، والحَمد اللِّساني، وبالصدقة أيضًا.
• مِن دُروس هذه التجربة: الإنجازات لا بد لها مِن جِدٍّ، وتحديد هدف، وخطَّة وفريق لتحقيقه، وتأمين تمويل، وصَبْرٍ حتى الإنجاز، ثم تقويم واستمرار.
• هذه القصة والفيلم نموذج على وجوب استثمارنا نصوص الكتاب والسنة إلى أقصى إمكاناتنا - خبراءَ وأغنياءَ - بمختلف اختصاصاتنا، ضمن ضوابط شريعتنا، فخِدمة الدِّين وظيفة كل مسلم.
• لِكلِّ قَوْمٍ وزَمانٍ لِسان: مَن شاهد الفيلم في صغره، أو شاهَدَه أولادُه يعرِف أهمِّيّة الفن الإسلامي في التربية والتأثير.
هذه إشراقة أمل تنتظر مِنا العمل.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة