أبكي على خبر السَماء!
لما قبض النبي صلى الله عليه وسلّم بكت أمُ أيمن فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: أبكي على خبر السَماء. (1)
***
نعم يحقُ لك البكاء يا أم أيمن!
كيف لا تبكين انقطاع الوحي وهو للأنفس كغيث السماء يتنزَل على أرضﹴ جدباء. كيف يكون حالها دونه؟!
لقد ذاقوا لذة هذه الصلة التي ربطوا بها رباطاً لا ينحلُ، وغذّوا بهذا اللِبان غذاءً ما عرفوا طعم الحياة إلا به ولا روح الدنيا إلا فيه. أتظنون أن بكاها كان لوفاته؟!
لا! إنها تعلم أنه سيرحل من هذه الدنيا كما رحل غير من إخوته صفوة البشر عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
لا، لا، إنها لا تبكي الموت، فهو قانون ينتظم كلَ حيٍ، وما منَا أحد إلا وسيذوقه ويتجرَع كأسه.
إنها تبكي على خبر السماء الذي ينير الظُلمات، ويكشف الكربات.
وإذا دهم المسلمين أمرٌ تحيَرت له الخيرة، زالت حيرتهم بآية منه، وإذا استبهمت عليهم معضلة انتشلهم من تردُدهم بيانٌ منه يهدِئ النفوس، ويثلج الصدور، ويريح الأعصاب.
الوحي هين؟!
بالوحي الضمان من الزَلل، والأمان من الخطل، وهو يستوي من يعتصم بحبلﹴ من الله، ورجل يلجأ إلى هواه؟!
بالوحي استروح القرَاء يتلونه آناء الليل وأطراف النهار فلا يملُونه، وعلى كثرة الردِ لا يخلق، ولا تبلى جدَته.
بهذا البيان الطَري العذب ذي الطّلاوة صفّت أمُ أيمن – مع أخواتها وصويحباتها – الأقدام في جوف الليل مناجيات متبتِلات ذارفات دمعات حرَى أن لا ينقطعن عن منزِله الجواد الكريم.
حقَ لك البكاء يا أم أيمن!
كيف لا تبكين ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين، ولئن أعيا الناس الأطباء في أدواء اعترتهم وألمَت بهم، ما كانت شكايتهم إلا من نفوس شاردة عنه، مضطربة عليه، غير مهتدية إليه، وما إن هدوا إليه حتى عادت إليهم أرواحهم مطمئنة بذكره وورده.
***
وكأني بها تلتفت إلى من حاروا في بكاها: أستغربتم بكاي؟! أعندكم غير هذا الكلام كلام تتعبَدون لله به، فتتضاعف عليكم الأجور كلما فاهت أفواهكم بحرف من حروفه؟!
كم هو غال على صاحبه؟!
ما تثبّتت قلوبنا على كلام هبط علينا ما تثبَتت به، وهو خليق بذاك! تتحرك له الأملاك العلوية وربما يشيِع آيةً منه ألوفٌ وألوف من ملائكة الرؤوف سبحانه.
والله لو عرفتم قدره لما شبعتم منه، ولقطعتم أعماركم ذوداً عن حياضه، وتنقُلاً في رياضه.
ثم أتحسبون أني أنا المرأة التي بكته يتيمةً لا أخت لها؟! لا، أنا من ظهر لكم بكاي، لقد دمعت لفراقه أعينٌ توارت عنكم، أو تواريتم عنها، تعزَت في الخلوة عن مشاغل الجلوة وآفاتها.
***
أخواتي!
كم من فرق بين امرأة تبكي انقطاع خبر السماء، وامرأة تبكي لأن خلَها أخلف لها وعداً، أو نقض لها عهداً؟!
هل فيكنّ من تلتحق بأمّ أيمن، أم ستنقضي أعماركن في بكاء يبكى عليه، وعواطف مرديةﹴ لا مجدية؟!!
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/181 – طبعة دار الكتب العلمية الثانية 1418/1997.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن