ان للموت سكرات
الموت، المحطة الأولى في طريق الآخرة، الأجل الذي يخشاه الناس، وتتزلزل لذكره القلوب، الموعد الذي لا يتخلّف ولا يتخطاه أحدٌ، المصير الذي يدرك ولا يترك، النهاية المحتومة لكل مخلوقﹴ، شهد على ذلك الناس أجمعهم، مسلمهم وكافرهم، مؤمنهم وجاحدهم، وعاينوه معاينة دقيقة، وعلموا وجوده دون أن يعلموا حقيقته وكنهه، فأصبح عند الناس كلّهم بدهياً من البدهيات، ولكنه في الواقع سرٌ من الأسرار وآيةٌ من آيات الله في عباده ومخلوقاته.
الموت ما إن يذكره الفرح المغرور حتى تنقلب أحواله ويتكدر صفوه، وما إن يذكره المحزون المقهور حتى تنفرج أساريره ويصفو كدره.
الموت هام اللّذات ومفرِق الجماعات، طريق المؤمنين إلى الجنة، به ينتهي سجنهم ومحنتهم وشقاؤهم، وطريق الكافرين إلى النار به ينتهي نعيمهم وسرورهم واستكبارهم. وكلٌ من الفريقين صائرون إليه لا محالة ﴿كلُ نفس ذائقة الموت﴾ جعله الله مرحلةً فاصلةً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وجعل ما بعده جزاءً لما قبله فمن قدّم خيراً فجزاؤه الخير ومن قدّم شراً فجزاؤه مثل ما قدّم:﴿فمن يعمل مثقال ذرةﹴ خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره﴾.
فكيف استعدادنا لهذا المصير المحتوم؟ وماذا قدمت أيدينا من أعمال تفرّج عنا كربة تلك اللحظات العصيبة؟ وهل ترانا نعمل بما يتناسب مع هول تلك السكرات المخيفة؟
أترانا أعددنا العدّة لنكون من الناجين؟ أترانا نذكر الموت في كلِ أعمالنا ونعمل لما بعده؟ أترانا نقدّم أعمالاً تنبئ عن وعينا لحقيقة وجودنا في هذه الدنيا؟ ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾.
أم أننا نسينا هذه الحقيقة واتّبعنا الزيف والوهم وتعلقنا بالدنيا عوضاً عن الآخرة وبنينا لدنيانا وهدمنا أخرانا وعشنا حياة المخلّدين الباقين؟
وللأسف فإن ذلك هو الذي عليه معظم الناس، نسوا الباقية واهتموا بالفانية، نسوا الغاية واشتغلوا بالوسيلة، فنراهم لدنياهم مجتهدين ساعين متفانين، ولآخرتهم مؤجِلين مسوِفين متناسين، يخدعهم بريق الدنيا الكاذب ويغرّهم جمالها الفاني الزائف، وهي التي ستأتي يوم القيامة عجوزاً شمطاء شاهدة عليهم وعلى غفلتهم، آخذة بأيديهم إلى عذاب جهنم. فاستيقظ أيها المؤمن من غفلتك، وأزل عن عينيك غشاوةً ولّها لديك طول الأمل وحبّ الدنيا، وتذكر أن الموت قريب منك أكثر مما تشعر، فحاسب نفسك قبل أن تغرغر، وحاذر أن يأتيك الموت وأنت في حالة تغضب مولاك من التلبّس بالمعاصي والآثام، فإنك ستحشر يوم القيامة على تلك الحال، فاعمل على أن تكون في أحسن حال من الطاعة والتّقى، فليس الذي يلقى ربّه ساجداً أو تالياً لكتابه كمن يلقاه غافلاً عن ذكره تاركاً لما افترضه عليه متلبساً بما نهاه عنه.
واتق ذلك اليوم الذي تنادى فيه وتسأل عما قدمت في دنياك، فلئن سئلت عن عمرك فيم أفنيته أتراك تحبُ أن تقول:( أفنيته في طاعة الله)؟ أم أن تقول: أضعته في اللهو واللعب، أفنيته مجاهداً في سبيل أهوائي وشيطاني، اتبعت صحبة السّوء فألهوني عن ذكر ربي؟ وهل ستتحمل صحبة السوء عنك أوزارك؟ أم هل سيشفع شيطانك لك عند الله تعالى؟ إنهم هناك في ذاك الموقف يتبرؤون منك:﴿إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾، ﴿وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم﴾ ولئن سئلت عن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته أتراك تحب أن تجيب:( كسبته بكل طريقة عرفتها، ولم أفرّق بين الحلِ والحرام ولم أبال أكان من الرِبا أم من مال يتامى) وعندها سيكون عليك وبالاً وسحتاً وناراً تحرق جوفك!
ثم إن عرض عليك شريط حياتك من أولها إلى آخرها أتحب أن ترى نفسك متمرِغاً بالمعاصي لاهياً متخبطاً في الدنيا؟ فاعمل على أن يكون شريط حياتك حين يعرض عليك مليئاً بطاعة الله.
ويا لشدة الموقف حين تحاسب على كل صغيرةﹴ وكبيرةﹴ، حين تحاسب على النظرة والكلمة والإشارة والهمسة، ويا لعدد الهمسات والنظرات والكلمات ويا لكثرتها في حياتنا، نقوم، ولا نبالي بها وقد تهوي بنا إلى نار جهنم – أعاذنا الله منها – ذلك الموقف الذي يتمنى فيه الإنسان لو لم يكن، ويتمنى فيه الكفار أن يكونوا تراباً ولا أكثر من التراب.
فارجع لنفسك أيها الإنسان وتأمل كل ذلك، ولو تأملت جيداً ما ورد في الكتاب والسُنة عن هذه الأمور لوجدتها كثيرةً كثيرةً ولوجدت من الأهوال ما ينخلع له الفؤاد، ولوجدت أن أول هذه الأهوال: الموت الذي لا ينجو من آلامه وسكراته إلا من رحم الله تعالى، وتخيل تلك الروح التي تنتزع من الجسد، وتخيل الآلام التي ترافق ذلك، إنها والله لشديدةٌ شديدة، وانظر إلى ضعفك تجد أنه إن أصابك جرح أو مرضٌ تألمت فما استطعت أن تحتمل فكيف بآلام نزع الروح؟ تلك الآلام التي لا مفرّ منها ولكنها تتفاوت من شخصﹴ إلى آخر فتشدَد على الكافر وتخف على الطائع، فادع ربَك والتجئ إليه أن يخفف عنك آلام النزع وسكرات الموت وعزز دعاءك بعملك الذي إما أن يشفع لك أو يهوي بك إلى مكانﹴ سحيق.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن