كاتبة سوريّة وإعلامية، في مصر، مشرفة على موقع (إنسان جديد)
كن كنملة سليمان
إنْ كانَ للإنسانِ ولادةٌ واحدةٌ فَلِلمسلمِ ثلاثُ ولادات، الأولى كَكُلِّ البشرِ يومَ تُبصِرُ عيناهُ نورَ الحياةِ، والثانيةُ يومَ يَعِي سببَ وجودِهِ في هذهِ الحياةِ ويُعِدُّ العُدَّةَ لعِمارتِها وإقامةِ الخلافةِ فيها، والثالثةُ يومَ يمضي منْ هذهِ الدنيا وقدْ صارتْ بهِ أفضلَ مما كانتْ عليهِ قبلَه...
وهذا لا يكونُ إلا لمنْ عرَفَ ووعَى، فاتخذَ منَ الإيجابيةِ مركباً لحياتِه، ورفعَ المبادرةَ فيها شِراعاً، وأمسكَ بمِجذافِ الإرادةِ والعزيمةِ، ومضى في غايتِه، يَفيضُ بالخيرِ أينما حلَّ وحيثما ارتحل...
الإيجابيةُ تبدأُ مِن قناعتِنا أنَّنا على الدوامِ قادرون، وأنَّ كلاً منا يملكُ ما لا يملِكُه الآخرون، وهوَ ما الحياةُ بحاجة إليهِ لتكونَ أفضل...
الإيجابيةُ هي ما تحلَّتْ بهِ تلكَ النملةُ التي نادتْ قومَها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ...) لم تهربْ بنفسِها وتقل: أنا ومِنْ بعدي الطُوفان، فكانَ نداؤها حياةٌ لغيرِها.
الإيجابيةُ كانتْ وراءَ اختفاءِ الهدهدِ الذي توجَّهَ إلى سبأَ ليأتيَ منها بنبأ يقين، فكانَ سبباً في هدايةِ ملكَتِها، واتباعِها وقومِها دينَ سليمانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
الإيجابيةُ التي أعلمنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنها لنا صدقةٌ تبدأُ ببسمةٍ نُحيي بها قلباً حزيناً، ولا تنتهي بنُصرةِ مظلومٍ أو دفاعٍ عن حقٍّ، مروراً بإماطةِ الأذى عن الطريقِ.
الإيجابيةُ أنْ تأمرَ بالمعروفِ وتَنهى عن المنكرِ، ولا تعدِمُ لذلكَ وسيلةً فتنصحُ بمحبَّةٍ، وتوجِّهُ بلينٍ، وتُعينُ على تركِ المنكرِ بإحسانٍ.
الإيجابيةُ تدفعُكَ لتحرِّي الحكمةَ في إيصالِ الحقِّ، فتتَّخذ منَ المعروفِ طريقاً في نهيِكَ عنِ المنكرِ... فلا تكونُ فظَّاً ولا غليظَ القلبِ، وأنتَ تُدرِكُ حقيقة قوله سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) مدركاً كيف أنه سبحانه يقدِّمُ دوماً ذِكْرَ الأمرِ بالمعروفِ على النهيِ عنِ المنكرِ، وفي ذلكَ دعوةٌ لنا لملءِ وِعاءِ النفسِ بالصالحِ قبلَ تفريغِه منَ الفاسد، ربما يبدو هذا مخالفاً لما نعتقدُه بداهةً أنَّ التفريغَ يجبُ أنْ يسبِقَ الملء، وأنَّ التخليةَ تكونُ قبلَ التحليةِ، ولكنَّ صريحَ الآياتِ تأتي لتقولَ لنا شيئاً آخر...
تقولُ لنا: إنَّ للمعروفِ قدرةً خفيةً، طاقةً سحريةٌ تمكِِّنُه منْ إزاحةِ المنكرِ والإطاحةِ به، فالمعروفُ كالهواءِ القادرِ على التسللِ، وعندَما يحلُّ في النفسِ فإنَّه يُصلِحُها فيغدو إقلاعُها عنِ المنكرِ أسهلَ، بل لا يعودُ للمنكرِ فيها مكانٌ ليستحكِمَ أو يتأصَّل، فالصادق من المؤكد لن يكذب، والأمين لا يخون، والوفي لا يغدر...
الإيجابيةُ تقولُ لكَ: أنتَ جديرٌ بالتغييرِ ومؤهَّلٌ لأنْ تكونَ ممَّنْ قال عنهم سبحانَه: (ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعملَ صالحاً وقالَ إنني من المسلمين) ففي هذهِ الآيةِ الكريمةِ ردٌّ حازمٌ وجازمٌ على مَن يترُكُ الإيجابيةَ بحجةِ أنهُ مقصِّرٌ في العملِ، فاللهُ تعالى يقدِّمُ لنا ترتيباً يتمثّل في:
أولاً: دعا إلى الله.
ثانياً: عملَ صالحاً.
ثالثاً: قالَ إنَّني منَ المسلمين.
على عكس ما يعتقِدُهُ الذينَ أَخلَدُوا إلى الأرضِ، أنَّ عليهم انتظارَ الكمالِ في السلوكِ والأفعالِ والأخلاقِ حتى يتَّصفوا بالإيجابيةِ وفعلِ الخيرات، فابتدأَ سبحانه بالدعوةِ، وبعدها العمل، وبعدها إعلانِ الإسلام، وكأنَّه أرادَ سبحانه أن يُعلِمَنا: أنَّ تحمُّلَ المسؤوليةِ والمبادرةَ والإيجابيةَ التي يتَّصفُ بها مَنْ يدعو إلى اللهِ تعالى تُعينُه، وتدفعُه لفعلِ الصالحات، وتجعل من دعوته رقيباً عليه فتستقيم أفعاله، فيصل في أعماقِه إلى حالةِ إيمانٍ تدفعُه إلى الاستسلامِ لخالقِ الأرضِ والسموات، عندَها يُعلِنُ إسلامه، ولكنَّها هذه المرة إسلام حالٍ لا إسلام مقال، إسلام اختيارٍ لا إسلام مَن اتبع دين آبائه وأجداده، عندَها يُعلِنُ إسلامَه الحقيقيَّ قائلاً: إنَّني من المسلمين.
لذا اجعل دأبك كل صباح أن تنظر لكل ما حولك نظرة تحديد لما ستصلحه فيه، فأنت معنيٌّ بأن تجعل عالَمك أفضل، أن تصنع الأفضل لا أن تنتظره، وليس من سبيل لذلك إلَّا الإيجابيةُ، فالإيجابية خيرٌ كلها بل هيَ مناطُ الخيريةِ لك ولأمتنا، قال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن