حلم لو أنّ له رجال
في كتابه "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم"، قال أمير البيان شكيب أرسلان موضحا العواقب الوخيمة لبخل المسلمين في الإنفاق على ما ينفع: "ضنُّ المسلمين بالأموال على القضايا العامة هو الذي شلّ حركتهم السياسية، إلى أن صارت الأمم الغالبة على أمرهم لا تحسب لهم أدنى حساب".
والمتأمل في سلوكيات الإنفاق في العالم الإسلامي والعربي، يدرك أنها في معظم الأحوال بعيدة عن استشعار المسؤولية الاجتماعية، وتهدف إلى التربّح الشخصي بمعزل عن الصالح العام للمسلمين، لتضيف إلى الخلل الحكومي في الإنفاق خللا جماهيريا في ذات الجانب، يضاعف من كارثة إهدار الأموال.
المسلم اليوم، كما يقول الدكتور محمد العبدة في إحدى رسائل دروب النهضة: "محاصر بين دول تهدر المال العام وتستعمله في المصالح الشخصية ومصالح المنافقين والمتزلفين وبين مؤسسات وتجمُّعات تعامل الفرد مثل معاملة هذه الدول...، كما أن المسلم محاصر بين أنظمة قائمة على الربا والرأسمالية المتغولة، وبين أغنياء من المسلمين لا يُقدّرون قيمة المال، وكيف يُنفق، وكيف يُستثمر، وكيف تُوجد الحلول لمشاكل بالغة التعقيد".
لئن كانت القاعدة الرائجة تقول إن رأس المال جبان، لكنه في العالم الإسلامي العربي ذو جبن نسبي، فهو جريء في الاتجاه إلى المشاريع السخيفة، وفي المقابل لا تجد المشاريع النهضوية والتنموية من ينهض لها.
وحتى الإنفاق في وجوه الخير والبر، تراه مصابا بشيء من العقم، يعالج أزمات آنية بمسكنات سرعان ما يزول تأثيرها، دون الاتجاه إلى مشاريع استراتيجية تسهم في صناعة النهضة، كما تجده بعيدا كل البعد عن ترتيب الأولويات، فأموال المحسنين تتجه لبناء مسجد في كل شارع، على الرغم من القصور الشديد في عدد المستشفيات التي يكون تلقي العلاج فيها بمتناول المواطن الفقير في بقاع شتى.
هناك من يذهب إلى الحج في كل عام رغم أن الفريضة مرة واحدة، ولم يكلف نفسه بعمل مشروعات صغيرة للشباب الذي يعاني البطالة في معظم بلاد المسلمين.
رأس الأموال في أمتنا ليس جبانا فحسب، لكنه أحمق أيضا، لا يتحرك، وإن فعَلَ تخبّط وترنّح وضلّ طريقه.
من المشاريع التي وجدتْ جُبنا وإحجاما من رؤوس الأموال على الرغم من أهميتها القصوى: الدراما الهادفة، فإلى الآن لم نر من أصحاب الأموال – على كثرتهم – اهتماما بتبني مشروع كهذا يمكن أن يُحدث تحولا جذريا في المجتمع الإسلامي.
الدراما هي الكلمة التي تُجسدها الحركة والفعل، كانت محل اهتمام الأمم السابقة، تحدث عنها أرسطو وأسماها المأساة والتي تعتبر الصيغة العليا من الدراما، عرفها اليونان في نمطها المسرحي، لتأخذ مع الزمن شكلها الحالي في السينما والتلفزيون.
الدراما تتناغم مع الاتجاهات النفسية لدى البشر والتي تميل إلى المحاكاة، لذا فهي أحد الأدوات البارزة في تشكيل وعي واتجاهات الجماهير بصورة تراكمية، وتلعب دورا هاما في ترسيخ القيم والمفاهيم بنوعيها الإيجابي والسلبي.
بل إنها وسيلة فعالة لنقل الثقافات ورسم صورة ذهنية معينة عن مجتمع ما لدى المجتمعات الأخرى، وقد استطاعت أمريكا أن ترسم من خلال الدراما صورة ذهنية لدى المسلمين مغايرة للحقيقة، فصورة الجندي الأمريكي الذي لا يُقهر ترسّخت في أذهان الجماهير الإسلامية، بينما أثبت المقاتل الأمريكي فشله من بعد الحرب العالمية الثانية في كافة الميادين التي قاتل فيها، بعدما صار أكثر انغماسا في الترف والرفاهية.
الهند بدورها غزت ثقافتها الدول الإسلامية عن طريق الدراما، والتي أسهمت في انفتاح العالم الإسلامي العربي على تلك الثقافة، فصارت أدق التفاصيل في الحياة الهندية كتابا مفتوحا لدى العرب، وصاروا أكثر ارتباطا بعادات الهنود، حتى ترى الشباب يحفظون العديد من الكلمات الهندية، ويحيطون علما بالمدن والمعتقدات والتاريخ والأعلام في الهند، حتى أن بعض فتيات العرب يرتدين الساري الهندي في الحفلات.
في العالم العربي الإسلامي كانت هناك محاولات ضئيلة وجهود فردية لاستثمار هذا الفن في غرس القيم الإسلامية والتقاليد المحافظة، كان منها المسارح الإسلامية التي كان الإخوان المسلمون في مصر بعهد حسن البنا يولونها اهتماما كبيرا، ويقدمون خلال العروض المسرحية سيرة الصحابة وعظماء الإسلام، لكن هذه التجربة لم يكتب لها الاستمرار بسبب الأنظمة المستبدة التي تعاقبت على حكم مصر، وقوّضت مثل هذه المشاريع.
هناك بعض الفنانين كانت لهم تجارب فردية لتقديم دراما هادفة، إلا أنها ماتت بضغط الواقع العلماني المهيمن على ذلك السوق، ولعدم وجود هيئات حاضنة تنهض لهذه التطلعات.
فأجد نفسي أعاود التساؤل: أين أصحاب رؤوس الأموال؟ أين أصحاب التوجهات الهادفة ممن يملكون المليارات؟
يقينا لو قامت شخصيات وهيئات بتبني هذا المشروع، ستكون نقلة كبيرة في حياة المجتمعات الإسلامية، تخيلوا معي أن يتم غرس القيم الإسلامية في الأجيال عبر الشاشات وهم في عقر دارهم.
تخيلوا أن الكلمة التي يُفني الشيخ والداعية عمره في توصيلها إلى بضعة آلاف على الأكثر، ستصل عبر تجسيد الكلمة إلى الملايين.
تخيلوا أن التاريخ الإسلامي المزيف سيتم تصحيحه لدى الجماهير في ساعات يقضيها الناس أمام الشاشات.
يا له من حلم لو أن له رجالا، يا لها من رؤية تحتاج إلى يوسف الزمان لتأويلها.
نعم هناك عقبات تثير مخاوف أصحاب الأموال الهادفين، أبرزها الحكومات والأنظمة المُشبّعة بهواجس صعود وسيطرة التيار الإسلامي، لذا لا أنادي أن يتبناه فصيل بعينه، ولكن يمكن حشد شخصيات دعوية لها قبول وثقل ولها نهجها في العمل الإسلامي العام، إضافة إلى شخصيات أخرى سياسية واجتماعية وطنية محافظة للدعوة إلى هذا المشروع، تستميل أصحاب رؤوس الأموال، والبدء في إقامة مدينة للإنتاج الفني تتخصص في سينما الأنيميشن، التي صارت الأكثر رواجا في أمريكا.
ويمكن لهذا الشخصيات تكوين هيئة ترسم سياسة المشروع بالاستعانة بأهل الفن المعتزلين أو أصحاب التوجهات الهادفة، تراعي الواقع لا تصطدم به، وتقدم المواد البعيدة عن النعرات المذهبية والحزبية، والتي تكون محل اتفاق وقبول، ترتكز على بناء وترسيخ القيم المستمدة من الشريعة أو القيم العربية الأصيلة التي لا تخالف الإسلام، إضافة إلى الأعمال التاريخية والاجتماعية الهادفة.
ولقد رأيت أن أكثر من يهتم وينادي بالدراما الهادفة البديلة، الدكتور سلمان العودة، لذا أتمنى أن يصل صوتي إلى فضيلته من خلال هذا المنبر، بأن يحمل على عاتقه هذا الهم، فهو من المصلحين ذوي التأثير في الأمة، وأقدر على الدعوة إلى هذا المشروع، وأعلم مني بحجم أهميته.
هي إشارة إلى بذرة يمكن غرسها في حقل الدراما، ليس بالضرورة أن تُرى ثمرتها عاجلا، فكما قال الشيخ البشير الإبراهيمي "ما غرس محمد صلى الله عليه وسلم شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، ولكن زرع الأولون ليجني الآخرون".
قولوا عني واهمة، حالمة، لكنها فكرة يؤرقني البحث عن ترجمتها، وحلم أنتظر من يعْبُره، لعل الله يجود علىّ بأن يهيئ لهذه الكلمات من يسمعها وتلامس قلبه فيشمر عن ساعد الجد.
المصدر : عربي 21
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة