الشيخ شعيب الأرنؤوط عـقـلٌ حـرّ... وعطاءٌ مستمرّ
من جميلِ صُنعِ الله بي أن سَنَّى لي صحبةَ العلاّمة الجليل والمحدِّث المحقق الثبْت الشيخ شعيب الأرنؤوط (أبو أسامة)، أمتع الله به وزاد من نفعه، فكان نعم المعلِّم والمرشد، وجدت لديه ما افتقدته عند غيره، إذ صحَّح لي أوهاماً كنت أظنها حقائق، وفتح لي مغاليق كنت في غفلة عنها، ودلني على مفاهيم كنت أبعد الناس عنها، وأخذ بيدي إلى طريق البحث والتحقيق وأنا بعدُ ريِّضٌ غضٌّ طريٌّ لم يصلُب لي عودٌ ولم يستحصِدْ لي أمرٌ.
ولو رحتُ أذكر فضائل الشيخ ومناقبه ومآثره لما وسعتني الصفحات ذوات العدد، ولكن حسبي من ذلك كله أن أومئ إلى خَلَّتين اثنتين فيه بلوتهما بنفسي وخبرتهما بتجربتي.
أما الأولى فهي سعةُ العلم وتنوّع مواردِه، فهو إلى جانب تخصّصه في علوم الحديث النبوي الشريف روايةً ودرايةً فقيهٌ أصوليّ ومفسّر لغوي، يروعُكَ فيه تـمكُّنُه من لغة العرب وحفظُهُ الكثيرَ من شواهدها، وروايته الطريفَ من أخبارها بل حِذَقُهُ العويصَ من مسائلها ومشكلاتها.
ولقد كان من سوالف الأقضية أن خصَّني وبعضَ الصحب بمجلسين اثنين كنا نقرأ عليه في أولهما تفسير النسفي، ونقرأ في الآخر فقه السنة لسيد سابق، وفي هذين المجلسين تكشَّفت لنا شخصيّة الشيخ العلمية وسعة اطلاعه على نحوٍ لم نعرفْهُ أو نعهدْهُ عند غيره ممن عرفنا، فالرجل أستاذٌ مُفْتَنٌّ جمع أصنافَ المعارف وحوى أفانينَ العلوم، ولم يصرفْهُ ذلك كله عن تحضير الدرس الذي سيقرأ، وجَمْعِ كلِّ ما من شأنه إيضاحُ عبارة الكتاب وإغناؤها، ولا تزال نسختي من هذين الكتابين تذخر بالفوائد والفرائد التي التقطتها من فِلْقِ في الشيخ حفظه الله، وإن تعجبْ فعجبٌ أن حواشي تلك الكتب لم تكن تتّسع لكل ما كان الشيخ يُتحفنا به من جليل النقول ونفيس النصوص فكنا نكتب بعض ذلك في قصاصاتٍ نلحقها بالمواضع المتعلقة بها من التفسير أو الفقه، وهو إلى هذا كله لا يُغفل التنبيه على كلام المصنف نفسِه إن اقتضى الأمر ذلك.
وأما الخَلَّةُ الثانية فهي بناء الرجال
يبني الرجالَ وغيرُه يبني القرى
شتَّانَ بين قرًى وبين رجالِ
لم يكن الشيخ ـ حرس الله مهجته ـ يكتفي بما يلقِّننا من علم، وإنما كان يرمي إلى بناء شخصيتنا العلمية، إذ زرع فينا أول ما زرع التفكيرَ الحرَّ المستقلَّ وعدَم التبعيّة لأحد، وكرَّهَ إلينا الطاعة العمياء التي تورث الذُّلَّ وتُخْمِلُ التفكير وتُميتُ الإبداع وتُعطِّل العقل، وكانت عبارته التي ما فتئ يردِّدُها على مسامِعنا: "لا تبِعْ عقلَكَ لأحد". ومن ثمَّ فقد نمَّى فينا ـ معشر تلامذته ـ تحمُّل المسؤولية وحملَ الأمانة التي أعجزتِ السماواتِ والأرضَ والجبالَ فأبيْنَ أن يحملْنَها وأشفَقْن منها وحَمَلَها الإنسانُ...
وكانت أولى خطواتِ هذا التحميل أن وجّهنا إلى تحقيق أمَّات الكتب كسرِّ صناعة الإعراب لابن جنّي، والدرّ المصون للسمين الحلبي، ولا تسل عن دهشة أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ رحمه الله حين أخبره في أثناء زيارتنا المعتادة له من كل يوم ثلاثاء بأن يحيى وحسان يعتزمان النهوض بتحقيق سر الصناعة ذلك الكتاب الذي تَقَطَّعَتْ دونه أعناقُ الرجال. وكان قد طلب مخطوط الكتاب فعلاً من مستودع المكتبة الظاهرية ودفعه إلينا في صباح ذلك اليوم من أيام الثلاثاء التي كنا ننعم فيها بصحبة الشيخ في قاعة الباحثين بالمكتبة الظاهرية, وغالباً ما كانت تنتهي بنزهة إلى الربوة أو عين الفيجة فما أحلاها من أيام!.
وقد تحوّل هذا التشجيع والتوجيه إلى واقع علمي حين دفعَ إلينا بالجزء الأول من موسوعة الذهبي "سير أعلام النبلاء"التي لم تكن لترى النور لولاه، ومضينا نخطو الخطوات الأولى في عالم التحقيق، ننسخ ثم نقابل مع الشيخ، وهو في أثناء ذلك يعلِّمنا ويرشدنا ويُلقِّنُنا أصول هذا الفن بملاحظات عملية سرعان ما تتحول إلى واقع علمي، وما هي إلا مدّة وجيزة حتى كنت ترى جيلاً جديداً من المحققين الشباب تَخَرَّجوا بالشيخ ونبُهوا به، أذكر منهم: الشيخ نعيم العرقسوسي والدكتور يحيى مير علم والأستاذ إبراهيم الزيبق والدكتور علي أبو زيد والأستاذ مأمون الصاغرجي وغيرهم ممّن صاروا ملء السمع والبصر.
ولئن تناول بعض أساتذتنا عمل الشيخ هذا بالنقد والتعقّب لقد استبان اليوم مقدارُ صوابه وبُعدُ نظره بعد أن استوى كلٌّ من هؤلاء المحققين على سوقه، ورأيتَهم ينهضون بتحقيق كبريات كتب التراث في شتّى أنواع العلوم الشرعية والأدبية واللغوية والتاريخية.
وحاشى لله أن يكون الشيخ على خطأ؛ ذلك لأنه لم يدع واحداً منهم يحطب على هواه، وإنما ظل يأخذ بيده حتى بلغ أشدَّه، واستوى محقّقاً اكتملت لديه أدوات التحقيق أو كادت:
إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نموَّه
أيقنتَ أن سيكون بدراً كاملاً
وإن أنس لا أنسَ – في صحبتي له - موقفا كان له في نفسي ووجداني أكبر الأثر، بل أكاد أقول لقد كان له في تمكيني من الكتابة وشغفي بها أثر لا يزول. وذلك أن الشيخ- نضّر الله وجهه وأسعد مهجته- لما فرغ من تحقيق كتاب جلاء الأفهام في الصلاة على سيد الأنام، بالاشتراك مع شيخنا الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، دفع الكتاب إليّ طالبا أن أكتب مقدمة له، ومعبرا عن إعجابه ببياني وأسلوب كتابتي، فتلقيت طلبه بسعادة غامرة يشوبها غير قليل من التهيّب والقلق! فمن أنا حتى أقدم لكتاب نهض بتحقيقه الشيخان الأرنؤوطيان؟! ولكني طويت نفسي على عزيمة مضّاء، وتفرغت للكتاب أقرؤه وأطالعه، وحشدت كل ما امتلكت من تعبير وبيان آنذاك لأكتب تلك المقدمة، ثم وافيت بها الشيخ على وجل، فما كان منه إلا أن أمر باعتمادها وطباعتها، وطرت فرحا بذلك, ولكن فرحتي لم تطَل قرعتي – على حد تعبير العامة عندنا – إذ تدخل صديق قديم بدوافع مازلت في ريب منها، فأفسد علي فرحتي وحرمني من رؤية أولى محاولاتي الكتابية زاعما أن والده الشيخ عبد القادر الأرنؤوط كتب للكتاب مقدمة. أما الصديق فهو الأستاذ محمود الأرنؤوط، وأما الدوافع فأترك أمر حَدْسِها للقارئ الكريم!
وكم كان لنا مع الشيخ من مجالس ومسامرات, وسيارين ونزهات, لاسيما يوم الثلاثاء, إذ كان يقضي سحابته في قاعة الباحثين من المكتبة الظاهرية بدمشق - وكان أمين القاعة إذ ذاك الأخ الصديق الأستاذ إبراهيم الزيبق - ثم يصحبني مع الأخ الصديق الدكتور يحيى مير علم – وغيره أحيانا ممن يحضر من الأصدقاء _ إلى عين الفيجة أو الربوة حيث كنا نسعد بصحبته سائر اليوم, ويغدق علينا من كرمه وحديثه وعلمه وأدبه ما يسمو بنفوسنا وعقولنا وأرواحنا. لقد أحدث يوم الثلاثاء في نفسي ما أحدثه الأربعاء في نفس الشاعر حيث يقول:
يا لَلرّجالِ لِيَومِ الأَربَعاءِ أَما يَنفَكُّ يُحدِثُ لي بَعدَ النُهى طَرَبا
على أن أبدع ما في شيخنا الشيخ شعيب – وكل ما فيه بديع معجِب_ أنه مازال وقد بلغ الثمانين قي قمة عطائه ونشاطه، لم تخبُ له شعلة ولم يفتر له نشاط، أكرمني المولى سبحانه بزيارته غير مرة في السنوات الثلاث الأخيرة, فإذا هو على ماعهدته يداوم في مكتب التحقيق – أعني تحقيق المخطوطات _ من الثامنة صباحا إلى الثانية من بعد الظهر، ثم يرتاح قليلا بعد الغداء ليفرغ من جديد لاستقبال طلبة العلم، وهم يفدون إليه من كل مكان ينهلون من علمه، ويستنيرون بسديد رأيه، بل إن بعضهم يرحل ليقرأ عليه كتبا بتمامها، ويأتي لهذا الغرض من بلاد بعيدة،والشيخ يستقبل الجميع هاشّا باشّا، ما تزيده السنون والدهور إلا عطاءً ومضاءً.
وهكذا يمضي دهره في خدمة الحديث النبوي الشريف ، وهو التخصص الذي وقف علي حياته، وأخرج فيه للناس كنوزا ودررا،نهد لها بمفرده أو بالاشتراك مع آخرين, أعد منها ولا أعددها:
- شرح السُّنة للبغوي، ستة عشر مجلَّداً.
- سير أعلام النُّبلاء للذَّهبي، خمسةٌ وعشرون مجلَّداً.
- جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام .
- جامع العلوم والحكم.
- موارد الظمآن بزوائد صحيح ابن حبان.
- زاد المعاد في هدي خير العباد. خمسة مجلدات
- رياض الصالحين.
- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام.
- مختصر منهاج القاصدين.
- مسند الإمام أحمد خمسون مجلدا.
- سنن التِّرمذي، ستة مجلَّدات.
- سنن الدَّارقطني، بالاشتراك مع حسن شلبي، خمسة مجلَّدات.
- تاريخ الإسلام للذهبي، صدر منه أربعة مجلَّدات.
- التعليق الممجَّد شرح موطَّأ محمد لأبي الحسنات اللَّكنَوي، أربعة مجلَّدات.
وبعد فمعذرةً منك أخي القارئ إن أنا سرحت بخيالي وعدتُ بذاكرتي إلى أيام الطلب، فحدثتُك عن عَلَمٍ لا يكاد يخفى علمُه وفضله ومشاركاتُه على أحدٍ من شُداةِ العلم بَلْهَ الراسخين به والمتخصصين. فالشيخ شعيب هو الشيخ شعيب وكفى. فليس عدلاً أن أعرِّف برجل ملأت آثاره المكتبات، وغدا اسمه مقترناً بكثيرٍ من كتب الحديث والتراجم والتاريخ، أحياها لنا وجلاها في أجمل صورة وأبهى حُلّة، وإنما يعلو مثلي بالحديث عن أمثاله:
وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ
إذا احْتاج النهار إلى دليل
وإني لأحسبه ـ ولا أزكي على الله أحداً ـ من العدولِ الذين خبَّر عنهم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "يحمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عدولُهُ، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويل الجاهلين".
وأنت يا أبا أسامة سلامٌ عليكَ من تلميذٍ محبٍّ انتفع بكَ ونهل من علمكَ وسَعِدَ بصحبتِكَ، أسأل الله سبحانه أن يبلِّغَك سؤلَكَ، وأن يجعلَ ما قدمتَ من عملٍ.. وما أخرجْتَ من كتبٍ.. وما ربَّيت من رجلٍ.. زُلفى لك عند ربِّكَ يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة